لأننا جميعا متفقون في أصول وأركان وواجبات وآداب العقائد والعبادات والمعاملات وغير ذلك من أحكام شريعة الإسلام. وإذا وجد شيء من الخلاف فهو في الفروع وما يشبهها وهو ناتج عن اجتهاد محمود في مقاصده وغايته، وإن ما يحز في النفس حقا أن أمة تنتمي إلى القرآن الكريم عقيدة ودستوراً وعبادة ونظاماً ثم تكون على هذا النحو من التشرذم مع أن المبادئ الأساسية المعروفة أن المسلمين أمة واحدة وشعب واحد انسجاما وتنفيذا كما جاء في الخطاب المتفق عليه في العقيدة السليمة، قوله تعالى: «إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون» سورة الأنبياء (92)، والخطاب المتفق عليه في الأخوة الصادقة قوله تعالى: « إنما المؤمنون إخوة» سورة الحجرات (10)، وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا» وشبك بين أصابعه. ونحن في حاجة في الوقت الراهن إلى قوله -صلى الله عليه وسلم-: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر» متفق عليه. إن الجسم الحي مترابط عضويا وإذا فقد الحياة فقد أيضا هذا الارتباط العضوي، لو أخذنا معادلة ارتباط الحضارة بالحياة لأمكننا القول إن المجتمع المتحضر مترابط عضويا رغم ما بين الأعضاء من اختلاف وهذه هي الحالة المذهبية، والمجتمع المتخلف حضاريا مفكك مجزأ وهذه هي الحالة الطائفية. لأن الله سبحانه وتعالى أمرنا بالتعاون الخالص فقال عز من قائل: «وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب» سورة المائدة (2). وقامت شريعة الإسلام على أصول منها: الأصل الأول: قيامها على اليسر لا على العسر وعلى التوسعة لا على التضييق، قال تعالى: «يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر» سورة البقرة (185)، وقوله سبحانه: «لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت» سورة البقرة (286)، وقوله عز وجل: «يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا» سورة النساء(28). وقال -صلى الله عليه وسلم: «إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا وأبشروا» صحيح البخاري. عن أبي هريرة . وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «هلك المتنطعون» أي المتشددون، وقال جابر بن سمرة -رضي الله عنه-: «كنت أصلي مع النبي -صلى الله عليه وسلم- الصلوات الخمس، فكانت صلاته قصدا -أي وسطا – وخطبته قصدا» صحيح مسلم. الأصل الثاني: قيامها على العدل، والعدل يفضي للأمن والأمان على النفوس والأعراض والأموال وعلى الحقوق كلها. الخطابات الربانية في العدل فهي: 1. العدل في الأقوال، قوله تعالى: «وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى» سورة الأنعام (152) 2. العدل في الأحكام، قوله تعالى: «وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل» سورة النساء (58) 3. العدل في الشهادة، قوله تعالى: «وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله» سورة الطلاق (2) 4. العدل في الكتابة، قوله تعالى: «وليكتب بينكم كاتب بالعدل» سورة البقرة (282) 5. العدل عند الإصلاح، قوله تعالى: «فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين» سورة الحجرات (9) 6. العدل المطلق، قوله تعالى: «ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى» سورة المائدة (8) الأصل الثالث: قامت الشريعة السمحة على رعاية مصالح الناس، وهذا الأصل منطلقة من دعوة ربانية قرآنية لأعمال العقل المركب في الإنسان في التفكير والتدبر وتنبيه على طرق النظر في آيات الخلق ودلالات الأمر، فالكون كتاب الله المنشور، والأمر كتابه المسطور يصدق كل منهما الآخر، قوله تعالى: « ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين» سورة الأعراف (54)، وقوله تعالى: «ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها» سورة الجاثية (18). إن هذا الأصل عنوان ومنهج لكل المذاهب الإسلامية أيدته بعد استقراء وجعلته الأمة بمذاهبها أصل المنهج وإيواء دلالة الاتفاق بينهم على السواء ومعادلته الناطقة «إن وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد» قال المحققون: «وأن المعتزلة اتفقت على أن أحكامه تعالى معللة برعاية مصالح العباد وأنه اختيار أكثر الفقهاء المتأخرين». ولإثبات ما ذكرنا نذكر كلام المحققين، قال العلامة الفاضل شيخنا عبد الله بن بيه في كتابه (مشاهد من المقاصد ص8): «والمعتد إنما هو: أنا استقرينا في الشريعة إنها وضعت لمصالح العباد استقراء لا ينازع فيه الرازي ولا غيره» – زعم الرازي أن أحكام الله ليست معللة البتة كما أن أفعاله كذلك – فإن الله تعالى يقول في بعثه للرسل وهو الأصل: «رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل» سورة النساء (165)، وقوله تعالى: «وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين» سورة الأنبياء (107)، وقال سبحانه في أصل الخلقة: «وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا» سورة هود (7)، وقوله تعالى: «وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون» سورة الذاريات (56)، وقوله تعالى: «الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا» سورة الملك (2)، وفي التفاصيل الفرعية قوله تعالى: «إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر» سورة العنكبوت (45)، وقال سبحانه في القصاص: «ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب» سورة البقرة (179). وقال- حفظه الله- بعد ذكر الآيات وإذا دل الاستقراء على هذا وكان في مثل هذه القضية مفيدا للعلم، وقال أيضا تبعا للمحققين (فنحن نقطع قطعا جازما) بأن الأمر مستمر في جميع تفاصيل الشريعة نقلا عن (الموافقات للشاطبي 2/8013)، وقال مؤيدا إن تلك الدعوة تلقفتها آذان واعية من الرعيل الأول الذي كانت له ميزة ومزية شهود الوحي ومشاهدة النبي الأعظم -صلى الله عليه وسلم- فأشربت أحكامهم وفتاويهم روح المقاصد التي أصبحت لاحقا فلسفة التشريع الإسلامي لإنها تقدم إجابة عن ثلاثة أسئلة أساسية. وختاماً وضع بن بيه الأسئلة. السؤال الأول: ما مدى استجابة التشريع الإسلامي للقضايا البشرية المتجددة، وهو ما سماه بعض القدماء بالقضايا اللامتناهية كابن رشد في البداية. السؤال الثاني ما مدى ملاءمة هذا التشريع للمصالح الإنسانية وضرورات الحياة؟ السؤال الثالث: ما هي المكانة الممنوحة للاجتهاد البشري العقلي المؤطر بالوحي الإلهي في التشريع الإسلامي؟ وذكر بن بيه الفارق بين التشريع الغربي الوضعي وبين فلسفة التشريع الإسلامي، فقال: وإذا كان لدى الغرب بين ما يسمى بروح القوانين وفي ضوئها يفسر القضاة والمحامون القوانين ويتأولونها فإن فلسفة التشريع في الغرب قد لا تبدوا شمولية مستوعبة للزمان والمكان إذا قيست بنظرية (المقاصد في الشريعة الإسلامية). إن التعامل مع المقاصد يجيب إيجابياً على تلك الأسئلة مع الإشارة بادئ ذي بدء إلى ثلاث قضايا لم تبت منها نظرية المقاصد، لم يحلها شيخ المقاصد أبو إسحاق الشاطبي ولكن مولانا ذكرها وحلها بفتحه وعظمة علمه وقوة فهمه في الكتاب المشار إليه وهذه عظمة الدين الإسلامي وعظمة أئمته المتفق على جلالتهم الذين قرروا رعاية مصالح الناس في أمور دينهم وفي أمور دنياهم فحيثما تكون المصلحة يكون أمرها وحيثما تكون المفسدة يكون نهيها وهذه حقيقة أصبحت علما ضروريا لا يرقى إليه شك ولا تقاربه ريبة ويكفي للأدلة على ذلك وصف الله سبحانه وتعالى لرسوله -صلى الله عليه وسلم- بقوله: «يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم» سورة الأعراف (157). وعلى الله قصد السبيل وهو حسبنا ونعم الوكيل.