عندما تقف على حدود المسافة بينك وبين عقلك يمكنك أن تحدد مسارك وتصنع الشكل الآخر لهويتك التي تلاحق الزمن في عصر يقال عنه إنه «عصر الانفتاح» الذي يتطلب منك أن تعيد صياغة نفسك في قوالب مختلفة يقبلها عقلك أحياناً وقد يرفضها أحياناً أخرى بناءً على معطيات التجربة ومع هذا الزخم الشديد الذي أصبح يغطي عالمنا الشاسع بشبكة الإنترنت صرنا نملك ذات الطرق والتوجهات والأفكار المستنسخة وربما حالة من التشابه الذي يسطع أحياناً ويخبو أحياناً أخرى؛ فنظل نبحث عن حدود التفرد والتميز والإدمان أحياناً، ولم أستغرب رصد العلماء لحالنا مع هواتفنا الذكية التي أكدت أن المستخدم ينظر يوميّاً نحو 88 مرة في المتوسط للهاتف الذكي للتأكد من عدم وجود مستجدات، ويقوم بإرسال أو الرد على رسائل نحو 53 مرة في اليوم الواحد ذلك ما أكده الباحث ألكساندر ماركوفيتس من جامعة بون الألمانية، مبيناً أن قراءة خبر مثير أو تلقي رسالة من شخص نهتم لأمره -وهي أمور نتفقّدها بشكل يومي على هواتفنا- يحفّز إفراز الدوبامين ونشعر بالتالي بالسعادة ونصبح ميّالين إلى هذا الشعور الذي يمنحنا إياه إفراز هذا الهرمون. ومن خلال تجربتي في مجال الدخول إلى هذا العالم الافتراضي الذي تحكمه القوانين المتعددة وقفت على عديد من الشراكات أو ما تسمى القروبات التي وضع منفذوها خطة محكمة لقيادة الدفة بما يعبر عن تعددية التفكير والوعي واختلاف المفاهيم ما بين كل شراكة وأخرى، ولأنني لا أريد أن أنزوي عن هذا العالم الذي أحبه وأرغب بالتعاطي المتوازن معه خضت هذه التجربة وعلى الرغم من عجزي عن إثبات حضوري بالبصمة اليومية في هذه المواقع وغيابي اللاإرادي عن حفلات الحديث والصخب اليومي، إلا أنني استطعت أن أنتمي إلى عديد من هذه المجموعات التي يتم فيها تداول الآراء والجمل والشعر والأدب والنكت والطرائف والأحاديث الهامشية المتنوعة، كما لاحظت وجود حالات من الانفلات وعدم القدرة على السيطرة في بعض هذه المجموعات، بينما تميز كثير منها بحالة وعي كبيرة قادرة على ضبط المحتوى والحفاظ على خط السير الذي رسمت له وهي تعبر عن تعدديتها بطرق مختلفة من التفكير والإدراك الذي يمكن أن يوجه خارطة الفكر الإنساني نحو الإبداع والإنجاز، وعلى الرغم من وجود بعض حالات التسيب والشغب وأحياناً قد تصل إلى الخلاف أو الاتفاق أو الشللية إلا أنني لا يمكن أن أنكر حالة من التقدم النوعي في استخدام هذا النوع من الثقافة التي يقوم صناعها على بناء فكر مختلف يقوم على المناظرات الأدبية وتبادل المقالات والوعي وفرض عقوبات على المخالفين لقوانين الحضور ضمن منظومة رائعة تتطلب دراسات اجتماعية وإنسانية بحثية تقوم على تطوير معطيات هذه التجارب الفريدة التي تخاطب عقل الإنسان وفقاً للمرحلة الجديدة وتقرب المسافة بينه وبين المعلومة التي صارت تصل في لمح البصر، ولعلني ألفت الانتباه إلى حالة كبيرة من الوعي التدريجي الموجه نحو «أنسنة القراءة والثقافة» وجعلها فاكهة يومية ونقلها من حيز الورق والمكتبات وحالة التغيب القسري للكتب وعزلتها على رفوف المكتبات إلى منطقة الوجود، ولعل ما ينقصنا هو لحظات التفكير النوعي في قوانين القص واللصق والتفكير لدقائق حول المعلومة وجديتها ومصدرها لاحتواء انتشار الشائعات والأقاويل التي قد تتسبب في تبديد جميع هذه الجهود وتحول هذه المواقع إلى ساحات للنقل اللامسؤول والخارج عن إطار الوعي؛ مما يؤكد أن التقنية بكل معطياتها وإفرازاتها الإيجابية والسلبية يمكن أن تتغير بالفعل الإنساني من خلال النظرة الواعية ووضع الخطط والأهداف الموجهة التي تنقلها من عالم العبث إلى الجدية المسؤولة والفائدة المرجوة في حال تطور فكر القائمين عليها وتضافر الجهود لردم الهوة بين القراءة والمعلومات وإخراجها من جب الغياب إلى الواقع بأمانة النقل ووعي السرد ودقة التلقي وتحري المصداقية لتتحول الثقافة إلى خبز يومي قابل للتعايش.