في أول سنة لي في التدريس قبل أن يتم تحويل مسمَّى المدرس إلى معلم، وكانت هذه الخطوة أول حركة لتشويه التعليم والقضاء شيئاً فشيئاً على هيبة المدرس والتقليل من شأن المدارس، وذلك حينما تم ربط هذا المسمى بمعلم الصبيان كما في العصور القديمة المتصف في أدبيات القدماء بالحمق والسفاهة، وليتهم ربطوه بمسمَّى «المؤدِّب» المرتبط بالعلماء والشيوخ، الذين كانوا يؤدبون أبناء الخلفاء والولاة، لكن مَنْ كان في يدهم القرار التعليمي الحكيم ارتأوا أن يقربوه من مفهوم الصبية والصبيان أكثر من كونه يرتبط بأبناء «الذوات»، وذلك لحكمة بالغة عظيمة يغفل عنها كثيرون بمَنْ فيهم كاتب هذه السطور. في أول سنة لي في التدريس في المدارس طُلِب منا قراءة المنهج والتعرُّف على ما به من أخطاء لتفاديها في طبعات لاحقة، وهذا العمل بطبيعة الحال عمل جميل، وموقف تشكر عليه «وزارة المعارف» التي واكبت هي الأخرى «موضة» تغيير المسميات، إذ حشت عقول الجميع على مدى سنوات حتى قبل أن تخلع عن نفسها مسماها القديم «وزارة المعارف» بأن «التربية» أهم مقوماتها في العمل، وشاهد هذا الحرص أنها تحولت إلى «وزارة التربية والتعليم»، حيث قدمت «التربية» على رسالة «التعليم» لتكتشف في نهاية المطاف أن «التربية» للمنزل، وأن عملها مقصور على «التعليم»، وكم أتمنى من كل مشاعري بأن تعود إلى مسماها القديم «وزارة المعارف»، الذي أخرج للوطن كل هذه الكوادر الثقافية والمعرفية والقيادية على أعلى المستويات بدءاً بملك الحزم والبناء الملك سلمان بن عبدالعزيز، حفظه الله، وصولاً إلى أبسط مواطن ممن تجاوز عمره الثلاثين سنة هذه الأيام، قبل أن يقتحمنا القدر بمسميات جديدة ما أنزل الله بها من سلطان. لابد لي من ترك طريقة الجاحظ في الكتابة، المعروف عنه كثرة الاستطرادات، والدخول في صميم الموضوع قبل أن يملَّ القارئ من هذا المقال. أقول في أول سنة لي في التدريس في المدارس طُلِب منا قراءة المنهج للتعرف على ما به من أخطاء لتفاديها في طبعات لاحقة، وكنت أدرِّس الصف الأول المتوسط، وكانت مواد اللغة العربية مكونة من عدة مناهج مقررة: «القواعد – القراءة والنصوص – الإملاء»، بينما مادة «التعبير» ليس لها مقرر مكتوب، جمعت أربعة طلاب، وطلبت من كل واحد منهم أن ينقد كل مقرر على حدة، وذلك باستخراج كل كلمة فيها خطأ لغوي، أو خطأ نحوي، وقد وكَّلت كل طالب منهم بمنهج بعينه لاكتشاف ما فيه من أخطاء، ووضعت لهم خطة العمل في جدول يتكون من هذه الفقرات «الكلمة الخطأ – الكلمة الصواب – رقم الصفحة – رقم السطر – موقع الكلمة في السطر»، ومنحت الطلاب الأربعة، وهم للتو قادمون من المرحلة الابتدائية، فترة أسبوعين لإنجاز العمل، وكانت النتيجة مذهلة ومفرحة في آن واحد، فقد عمل الطلاب ما طُلب منهم بأحسن حال، وأجمل تنسيق، وبدقة ونظام، فحملت الأوراق مسروراً إلى البيت لقراءتها ومراجعتها، وبعد ذلك تطبيق ما فيها على المنهج للتأكد من أن الطلاب لم يقعوا في بعض الأخطاء، وللأمانة فإن أغلب ما عملوه كان عين الصواب، ولو قُدِّر لي حينها وضع نسبة لذلك العمل لنال درجة الامتياز بلا تردد. قد يقول قائل إن «طلاب زمان»، أو معلمي الماضي أفضل ممن هم في الميدان هذه الأيام من طلاب أو معلمين، لكن الحقيقة الجلية هي أن المناهج كانت أفضل، وكانت الاختبارات الشهرية الثلاثة في كل فصل هي التي تصنع من الطلاب طلاباً مثابرين مجتهدين لا ينقطعون عن المذاكرة واستمرار القراءة، علاوة على الواجبات المنزلية التي كان الطلاب يُلزمون بحلها في المنزل، لكن زمن تطبيق النظريات على التلاميذ والطلاب جاء لنا بالعجائب والغرائب… فليت قومي يعلمون.