يقاس مستوى دخل دول عديدة في العالم بصادراتها إلى العالم من الزراعة والصناعة، فيما تقاس ميزانيات دول أخرى بإنتاجها من تكنولوجيا المعلومات، وتُقدّر ثروات كثير من الأمم بمخزوناتها من الخامات والمعادن! غير أن ميزانيات دولٍ أخرى كثيرة تُحسبُ بمنتج آخر، ليس من قبيل الصناعات، ولا المنتجات الزراعية، ولا المواد الخام، أو حتى إنتاج المعلوماتية، ولكنه مُنتج جديدُ قديم يخشى كثيرون الإفصاح عنه، لأنه مُصنّفٌ من العيوب والرذائل، وهذا المنتج لا يحتاج إلى مكتشفين أو علماء مخترعين، ولا يحتاج إلى وزارات وموظفين، بل يحتاج فقط لشفاهٍ وألسن… إنه خام (الكذب)! ويُشرع في استغلال (خام الكذب) كمصدر رئيس للدخل، أو لعله المصدر الأهم، ففي سنوات التربية الأولى يبدأ الأبناء بتعلم كيفية الاستفادة من الكذب لكي يحصلوا على منافعه في سن مبكرة، فتزرع فسائل الكذب وتُربى في الأسر والمدارس والشوارع وأماكن العمل، فيصير الغنى والنجاح مقرونا بالكذب، والفشل والفقر مقرونا بالصدق. وتنتعش في كنف خام الكذب صناعات متعددة تستمد قوتها ورأسمالها من الخام الرئيس (الكذب) فتصبح – وفق مفهوم الكذب – أغلفة البضائع أهم من البضاعة نفسها، وفي كثير من الأحوال يكون ثمن الغلاف أغلى من ثمن البضاعة نفسها، فأغلفة كثير من الصناعات أغلى من المنتجات التي في داخلها. أما أبرز صناعات الكذب، فهي صناعة إعلانات الكذب الصريح، فيكفي أن تتابع مستيقظا قناة تلفزيونية واحدة لتدرك بأن هذه الصناعة التحويلية التي تعتمد على خام الكذب هي أكبر الصناعات التي تدر أكبر دخل في كثير من الشعوب والأمم في الألفية الثالثة. فمن الشاي الذي يزيل الشحوم والدهون، إلى منتجات الأدوية التي تزيل كل الأمراض حتى السرطان، ومن المراهم المرطبات التي تُشفي الأوجاع إلى المراهم التي تُؤخر الشيخوخة وتعيد سنوات العمر عشرات السنوات إلى الوراء، أما منظفات الأسنان، فهي لا تقاوم التسوس فقط، بل تعمل على تثبت الأسنان الهشة، وتقوّم الأسنان المعوجة! ومسلسل المنظفات والمطهرات معروفٌ للجميع، وكل هذه المنظومة الصناعية في عالم اليوم، تُدرّ أضعاف الدخل القومي من خامات البترول والذهب والنحاس! لقد حول المخزون الهائل من الكذب العالمي تعبير (الربيع العربي) إلى بضاعة تُباع وتشترى، بعد أن تم اقتسامُ الدول وتمزيقها إلى قطع صغيرة في مجزرة منظمات الدول الكبرى، وتمَّ توزيعها بين المنظمات، التجارية والعسكرية والسياسية، ولم يُبقِ الكذبُ لتلك الدول سوى أسمائها وأسماء زعماء عصاباتها. وأخيرا نسيتُ أن أقول بأن كل ما ورد في المقال إن هو إلا حلمٌ مفزعٌ وكابوس مزعجٌ، فرحتُ كثيرا حين استيقظتُ بعد أن نجوتُ منه، فوجدتُ نفسي أعيش في واقع مثالي، فلا منتجات مزورة ولا دعايات كاذبة ولا أوطان مزقتها الثورات، فالكل يعيش في أمن وسلام والصدق يسود.