جاءت وثيقة الرؤية بمصطلحات جديدة في قاموسنا الرسمي، وبيَّنت كثيراً من التوجهات، وحدَّدت عديداً من المسارات، كما أعادت ترتيب خياراتنا الاقتصادية، واختياراتنا التنموية. مقابلات الأمير محمد بن سلمان، الإعلامية ألقت الضوء على جوانب من الرؤية، التي وإن كان عنوانها اقتصادياً تنموياً إلا أنه لا يمكن إغفال أبعادها السياسية والاجتماعية والثقافية العميقة، ففي موضوع طرح 5% من أسهم شركة أرامكو، الذي استأثر بكثير من الحديث والنقاش، نرى أن بعضهم اختزل الرؤية في جانب الصندوق السيادي، وطرح «أرامكو»، ومَن يملك مخزون النفط؟! ويبدو أن نقل وسائل إعلامنا عن المصادر الأجنبية هو السبب! لم يذهب أحد إلى ما وراء النقطة الأهم حول هذه الجزئية، كما لم يتم التطرق إلى شقها السياسي، وإشارات الأمير حول فكرة تأسيس صندوق في السوق الأمريكي لشراء أسهم «أرامكو»، وحديثه عن الشراكة الضخمة مع الولاياتالمتحدة، وأن النفط جزء بسيط منها، وما قاله عن الصفقة الأخيرة مع «شل»، وتملك «أرامكو» مصفاة «بورت آرثر» التي توصف ب «جوهرة التاج» بالنسبة إلى صناعة النفط الأمريكية، فهل كل ذلك يأتي لأن السوق الأمريكية هي أكبر الأسواق العالمية فقط؟ أم إن الأمر أبعد من ذلك؟ وأنه يمكن قراءته في سياق الشراكة الاستراتيجية للقرن الحادي والعشرين بين المملكة والولاياتالمتحدة التي أُعلنت أثناء الزيارة الملكية الأخيرة إلى أمريكا، مع أن بعض الاقتصاديين يرى أن طرح جزء من أسهم «أرامكو»، أو الاستثمار في الأسواق العالمية لا يخلو من «محاذير سياسية». وفي مقابلته مع قناة العربية تحدث الأمير عن فصل السلطات، وضرورة أن يقوم الجميع بدوره في هذه الرؤية، وحدد «في السلطة التنفيذية، أو في السلطة التشريعية، أو في السلطة القضائية، وكذلك المواطنين، ورجال الأعمال». ثم ماذا عن تكراره مفردات «الشفافية، والحوكمة، والمراقبة، والمحاسبة، ويصطدم مع الشارع! والشعب يراقب»؟! هل كل ذلك من منطلق خلفيته بصفته متخصصاً في القانون فقط، أم من خلال موقعه السياسي؟ لا أظن أن كل تلك الإشارات والعبارات جاءت بطريقة عفوية، بل أرى فيها رسائل حول أمور لم ترد في الرؤية، وما لم يقله الأمير بشكل مباشر. بعد ذلك، هل انبهار كثيرين بطريقة أداء الأمير وما قاله في مقابلته مع قناة العربية، أنساهم البحث والتمحيص في وثيقة الرؤية ومحاولة قراءتها بصورة تحليلية؟ للوصول إلى فهم مشترك، ومعرفة أكثر عن الرؤية، ومرتكزاتها ومحاورها، وأهدافها والتزاماتها، وبعض برامجها، علينا أن نقرأ أولاً ما نصَّت عليه وثيقة الرؤية لا ما يتناقله الآخرون عنها فقط، ففي كثير من الأحيان نلاحظ كيف يكون النقاش في موضوع ما حول العناوين، وليس حول المحتوى، وبالتالي لا نصل إلى حقيقة الأمر بصورة كاملة. رفع سقف التوقعات من قِبل بعض مَن يتناولون كثيراً من قضايانا، وما يطرحونه عن مشاريعنا في وسائل الإعلام، و»التطبيل الممجوج» لكل فكرة تطرحها الحكومة دون قراءتها واستيعابها بشكل كامل، وطرح الأسئلة المهمة حولها، أوجد جواً من عدم الثقة والقناعة بكثير مما يُطرح. يضاف إلى ذلك عدم تنفيذ كثير مما طُرح في الخطط الخمسية، وغيرها من المشاريع والمبادرات التي أُطلقت ولم تنفذ بالشكل المطلوب، أو لم تكتمل كما كان مخططاً لها. كل ذلك أوجد شيئاً من التشاؤم والقلق لدى بعض المختصين وغيرهم على الرؤية، رغم كل الاحتفاء والتفاؤل والأمل الذي بثته بصفتها حلماً منتظراً، مع أنه لا يوجد أي شخص يختلف حول الطموحات والآمال، ولكن الاختلاف يكمن حول النتائج وطريقة التنفيذ. من الصعب الحكم بشكل قطعي على الرؤية قبل إعلان كافة الآليات وبرامج التنفيذ، لكن على بعضهم أيضاً أن يتخلص من بعض القناعات، ويدرك أن عمق الرؤية سيؤثر في كثير من تفاصيل حياتنا، كما سيكون لها تأثيراتها المباشرة على المنظومة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، إضافة إلى تدشينها مرحلة جديدة من النقاش والنقد والتحليل، وعلينا أن نتقبل ونحترم، بل ونستفيد من كل ما يُطرح حولها. للرؤية جانبان الجانب النظري، والجانب التطبيقي، وسأتناول أولاً الجانب النظري وفقاً لما جاء في وثيقة الرؤية مع إيضاح بعض النماذج والمؤشرات التي وردت في الوثيقة، وسأحاول قدر الإمكان التطرق إلى النقاط التي لم تحظَ بكثير من النقاش والتعليق حولها، أو لم يتم التطرق إليها بشكل كامل. فحول محاور الرؤية جاء في الوثيقة: «تعتمد رؤيتنا على (3) محاور، وهي المجتمع الحيوي، والاقتصاد المزدهر، والوطن الطموح، وهذه المحاور تتكامل وتتَّسق مع بعضها في سبيل تحقيق أهدافنا، وتعظيم الاستفادة من مرتكزات هذه الرؤية. تبدأ رؤيتنا من المجتمع، وإليه تنتهي، ويمثِّل المحور الأول أساساً لتحقيق هذه الرؤية، وتأسيس قاعدة صلبة لازدهارنا الاقتصادي. ينبثق هذا المحور من إيماننا بأهمية بناء مجتمع حيوي، يعيش أفراده وفق المبادئ الإسلامية، ومنهج الوسطية والاعتدال، معتزين بهويتهم الوطنية، وفخورين بإرثهم الثقافي العريق، في بيئة إيجابية وجاذبة، تتوافر فيها مقومات جودة الحياة للمواطنين والمقيمين، ويسندهم بنيان أسري متين، ومنظومتا رعاية صحية واجتماعية ممكّنة». «وفي المحور الثاني الاقتصاد المزدهر، نركِّز على توفير الفرص للجميع، عبر بناء منظومة تعليمية مرتبطة باحتياجات سوق العمل، وتنمية الفرص للجميع من روَّاد الأعمال والمنشآت الصغيرة إلى الشركات الكبرى، ونؤمن بتطوير أدواتنا الاستثمارية، لإطلاق إمكانات قطاعاتنا الاقتصادية الواعدة، وتنويع الاقتصاد، وتوليد فرص العمل للمواطنين. ولإيماننا بدور التنافسية في رفع جودة الخدمات والتنمية الاقتصادية، نركِّز جهودنا على تخصيص الخدمات الحكومية وتحسين بيئة الأعمال، بما يسهم في استقطاب أفضل الكفاءات العالمية والاستثمارات النوعية، وصولاً إلى استغلال موقعنا الاستراتيجي الفريد». «ولأن الفاعلية والمسؤولية مفهومان جوهريان نسعى إلى تطبيقهما على جميع المستويات لنكون وطناً طموحاً بإنتاجه ومنجزاته. ولذلك، نركز في المحور الثالث من الرؤية على القطاع العام، حيث نرسم ملامح الحكومة الفاعلة من خلال تعزيز الكفاءة والشفافية والمساءلة، وتشجيع ثقافة الأداء لتمكين مواردنا وطاقاتنا البشرية، ونهيئ البيئة اللازمة للمواطنين وقطاع الأعمال والقطاع غير الربحي لتحمل مسؤولياتهم، وأخذ زمام المبادرة في مواجهة التحديات واقتناص الفرص». وفي كل محور من محاور الرؤية، تم سرد عدد من الالتزامات والأهداف مع بعض المؤشرات بالأرقام، بصفتها نماذج لما سيُعمل على تحقيقه. فما هي تلك الالتزامات والأهداف، وما هي نماذج البرامج التنفيذية التي نصَّت عليها وثيقة الرؤية؟ ذاك موضوع المقال المقبل بإذن الله.