عندما تكون الكتابة عن الأم فإنّك لو انتقيت من اللغات أبلغها، ومن القوافي أعذبها، ومن الألوان أبدعها، وصنعت من الياقوت والجواهر يراعك، واتخذت من عسجد الشمس مدادك ومن تبر القمر صحائفك فلا تظنّ أنّك قد وفيت أو قاربت على الوفاء ببذلك وسخائك. في مثل هذا الوقت من كل عام ترشفني نظراتكِ حتى آخر قطرة، وتزمّني شفتاكِ على محياكِ الحبيب بسمة، ويجذبني صوتكِ بعيداً، بعيداً إلى آخر مسافات الحنين، ويزهو القمر على الليل بالوضاءة، وتزهر النجوم في السماء، وينكشف عن وجهكِ ستار من هالة رقراقة، فيتقاطر من أطرافي الشوق، وتجمح الروح نحو عناقكِ الذي فارقتُه من سنين، ويتسارع النبض ليروي لكِ قصّة الوله القديم. في مثل هذا الوقت من كلّ عام، يتألق طيف ذكرياتي معكِ فيبعث في القلب برد نعيم وجودكِ، وينشر في الجو عطر أزاهيركِ، ويشقّ عن سمعي صوتكِ في كلّ حين مرّ عليّ وأنا بقربك، وتخترق مهجتي سهام الشوق من عينيكِ إلى ساعة أكون فيها بجانبكِ، فيحزّ ضلوعي بنصلِه الحنين، ويرمي بي في أحضانكِ، فتتوارد شوارد طفولتي لتجمع أطراف حكايتي، فتنطلق مني الزفرات كالشرر ينطلق من نار القضى. في مثل هذا الوقت من كلّ عام، يتناسل الحزن، ويتمرّد الشّوق، ويعبث الدمع بالجفون، ويزداد تلفتي وأنا أبحث عن آثار خطوكِ لعلي أبلغكِ فتنتهي المسافات بك، وتروين ظمأ فؤادي إليكِ، ويعود إلى طفلتك الهناء، وتفرح باللقاء، لكنّ وجه الغيب قد أُخفي عنّا فلا ندري – يا أمّاه – متى اللقاء؟ وإلى ذلك الحين سأرتوي من فيض الدعاء ممن وهب الموت والحياة بأنّ يجعل الفردوس مأواكِ، والنبي محمد صلى الله عليه وسلم جاركِ والكوثر موردكِ، والسدرة ظلكِ.