قبل نصف قرن ونيف، حثَّ الأزدي خطواته إلى قمة الجبل السروي، وأطلق عصافير نظراته إلى الآفاق البعيدة، حيث سفوح الجبال وبطون الأودية والمصاطب الزراعية المهملة التي وقتها عانت من الجحود وتألمت من عزوف الأهالي عن زراعتها، تحدَّرت الدموع من مقلتي الأزدي وجرّ خطواته الثقيلة إلى منزله الذي يعتلي ربوة صخرية، بعدها بدأ يقلّب جمرة القرار على صفيح ساخن، القرار الذي كان بعيداً عن هامش تفكيره، والآن استقر في بؤرة التفكير وأصبح شغله الشاغل ألا وهو الرحيل، وقد تسامق هذا القرار في الأيام الأخيرة بعد أن شاهد بعينيه انسلال أفراد جماعته إلى المدن البعيدة، وكان قبل ذلك يسخر من هؤلاء الهاربين من قراهم، ويصفهم بأقذع الصفات وينعتهم بأنكى الكلمات كيف لهم أن يجرُؤُوا على ترك مراتع الحنطة، ومواطن الذرة، وينسحبون من ديار ورثوها عن آبائهم وأجدادهم، وهي جديرة بالعناية والاهتمام حرثاً وحصداً وسقاية وعناية. الأزدي وجد نفسه في حيرة قاسية بين ماكان يعتقده، وبين ماهو واقع ماثل أمامه، الذاهبون إلى المدن البعيدة يعودون في مواسم الصيف، وهم في نعيم واضح لا تُخطئه العين، بينما الأزدي وأفراد قليلون يعيشون في منازل بنوها حجراً حجراً، العائدون جاءوا ليضعوا الدهانات البيضاء على واجهات منازلهم الحديثة، والمدهش أنهم سيغادرونها ساعة انطواء صفحة الصيف، ليعودوا إلى مقار سكناهم في المدن البعيدة. كان لابد للأزدي بعد أن ضاقت ذات اليد وأعيته صروف الحياة أن يتخذ القرار الحاسم «الهجرة»، ولا بد أن تنصاع زوجته «صالحة» للقرار الذي ذات يوم كان من الاستحالة التفكير فيه، أمّا الآن بعد أن سبر وشاهد وسمع لابد أن تتغير قناعاته (سبحان من يُغيِر ولا يَتغير) قالها في ذاته راضياً ومتألماً، راضياً بهذا القرار، ومتألماً لمفارقة حقله المملوء بالشجر والثمر، إلّا أن نتاج الزراعة في مصاطب صغيرة لم تعد قادرة على الوفاء بما تحتاجه العائلة من منازل ووو، والوظيفة بعيدة عن الأزدي بُعد الثريا عن الأرض ليس لديه مؤهل تدريبي أو شهادة تعليمية، والوظائف في القرية شحيحة كشح الماء في صحراء قاحلة، إذن فليتوكل على الله وينفذ قراره الصعب الهجرة إلى حيث التجمع السكاني والعمراني إلى حيث موفور الرزق. وبعد أن انصرمت السنوات الثقال، وأضحى الأزدي يمتلك الدار الحديثة، كان لا بد أن يهرب من فحيح الحر وجمرة الشمس اللاسعة في الصيف، والجبال هي الملاذ للراغبين، والباحة في نظره هي الاستثناء لقضاء وقت ممتع في ربوعها، قرر الاستمتاع بالجو اللطيف وحمل نفسه وعائلته على متن سيارة حديثة لتشق درب الجنوب، راعته سعة الطريق وسهولة السير فيه، وما إن تسنم عالي الجبل حتى ملأ رئتيه بالهواء العليل، واستمر على هذه الحال بقصد إرضاء ذاته بعد فراق دام عشرات السنين عن مكان أثير على روحه، وملأ عينيه بسحر الطبيعة حيث الشجر والجبل والزهر وتهادت السيارة بين منعطفات ودروب بقيت منقوشة في ذاكرته، حتى استقرت المركبة في باحة منزله الذي هجره لعقود مضت، والآن الأزدي يمتلك المال للتجديد والتغيير بل للبقاء. تلك القرية لم تعد كما كانت، توفرت بها مصادر الرزق، وكثير من تلك الطيور التي هاجرت في ذات يوم عادت، نعم عادت وامتلأت الأعشاش بالعائدين، وكان الأزدي من بينهم هاهي قرى الباحة تحوَّلت إلى أحياء حديثة، تحولت إلى حديقة من الأزهار وقد تراقصت بفعل غناء الطيور التي وجدت أن «مسقط الرأس» مهما ارتحل عنه الإنسان سيأخذه الحنين ويعود إليه. تنامى هذا المشهد السردي التخيلي بعد قراءة استطلاع للصحفي الزميل محمد البيضاني نشره في مجلة الغرفة التجارية بالباحة تحت عنوان (عودة الطيور المهاجرة) وأشار المشاركون وهم نخبة من المختصين والأكاديميين إلى قضية نشاط الهجرة الذي جاء نتيجة بحث عن فرص عمل ونجمت عن ذلك مشكلات تتمثل في تضخم السكان في المدن وتخلخلهم في القرى، وطرح المشاركون رؤاهم واقتراحاتهم بضرورة تنمية القرى، كي تكفل إزالة مسببات الهجرة إلى المدن، كما يقول الدكتور عائض الزهراني، وتحقيق فرص عمل جديدة ومتنوعة تمتص فائض البطالة المقنعة، وترفع من مستوى الدخول من خلال نشاطات إنتاجية جديدة إلى جانب الزراعة، ويرى الدكتور الزهراني أن مثل هذا العمل يخفِّف الضغط عن المدن ويدفع قطاعات الإنتاج والخدمات لترتقي إلى درجة فائقة من الكفاءة. وعلى الرغم من أن القرى في الباحة لم تعد قرى بمفاهيمها الحضرية والاجتماعية والجغرافية فهي أشبه بأحياء حديثة وصغيرة متناثرة فوق قمم وسفوح السراة تحتاج إلى التفاتة مهمة من وزارتي النقل والبلديات بربط تلك الأحياء بطرق واسعة، بديلاً مناسباً ومهماً عن الطرق المتعرجة والضيقة التي- مع الأسف الشديد- أصبحت سمة تلك الأحياء رغم انخلاعها من عباءتها القروية وتشكّلها إلى مدن صغيرة وحديثة.