نَمْقُتُ دائما في كوكبنا ذاك الكاتب الذي يتحدث عن نفسه كثيراً، ويحشر كلمة (أنا) بين كلمتي (أنا) و(أنا)، متباهياً بمجده الغابر أو مفاخراً بغابره الحاضر، ندرك منه شدة غروره قبل لين سريرته فكرهنا دخيلة نفسه قبل أن نزدري ضحالة عقله. ولكن في رحلة إلى كوكب الأديب (علي الطنطاوي) الوضعُ جد مختلف، فلا التربة هي التربة ولا الهواء هو الهواء، ففي حديقته (من حديث النفس) انقلبت الحكاية وارتدّت النظرة الناقدة خاسئة حَسرى. هناك تحدث عن نفسه كثيراً فأحببته كثيراً، وتألم كثيراً فدعوت له كثيراً، نقلبُ الصفحات فنلمس كم هي معاناة هذا الأديب من ظُلم الأيام وكم هو ألمُ تقلب الدهور والحكام، وجور الأنظمة وتجاهل الأتراب. حفر صخر الشام ولبنان وأزاح غبار بغداد وصارع في القاهرة وحارب في الجزيرة، له همة عالية وروح وثابة، وفكرٌ مؤمنٌ وقلبٌ حي. أحب لغة القرآن فنسج أدباً عالمياً لو أن فينا عزة نفس، وخاط ثياباً من الكلمات فكانت للضمائر الميتة حياةً، وللقلوب المكلومة أُنساً، ولفراق العشاق علاجاً والتئاماً. أحب الأدب فآثر مصب النهر على التحديق من الشاطئ، هام بالحدائق الغناء من حوله فجرته أقدامه وغاص في أعماقها، يقطف الوردة الزاهية يقدمها بقلم الوفاء، ويتلمس أغصان الحديقة فينبثق الكون كله طرباً بروائح الكادي والأقحوان. ويسامر القمر على هسهسةِ الماء فتغدو أوراقه هي جنان الأدب الرفيع. ذاك هو الأدب الذي نشتاق له، بعد أن تآكلت أجسادنا قيحاً ودماً خلف بيوتنا الإسمنتية الكئيبة، وذاك هو الأديب الذي نحن في حاجة إليه لفتح نوافذ نسمات الجنة وإغلاق مواخير سموم جهنم، فلعل نفحاً من العبق يكتسي ثيابنا أو لفحة من نورٍ تسكن قلوبنا.