لا يمكن للمتأمل فيما يجري على مسرح القوى العالمية من تغيرات متسارعة، ومتلاحقة وبخاصة في المجال السياسي والصراعات الدامية، واختلال بعض العلاقات الدولية، وأفول اقتصادات وبروز أخرى، إلا أن يقرأ ملامح مستقبل جديد لمنطقة الشرق الأوسط، والعالم بشكل عام. مع ظهور كثير من الطروحات، والسيناريوهات حول هذا المستقبل المتوقَّع. يبرز في هذا السياق كتاب «رؤية استراتيجية – أمريكا وأزمة السلطة العالمية» وهو عنوان الكتاب الأحدث لكاهن الاستراتيجيا الأمريكية بريجنسكي، الذي قدّم فيه رؤيته الخاصة حول توزعات القوى في العالم خلال العقدين أو الثلاثة القادمة، وتصوراته المعمقة للوزن النوعي لكل نموذج من النماذج القائمة، كالنموذج الأمريكي والصيني والأوروبي والهندي واللاتيني والتركي والإيراني. ومع أن بريجينسكي لم يعر انتباهاً لمنطقتنا، حيث اعتقد أن موازين القوى فيها ستظل مرتبطة بالنموذج الأمريكي قوة أو ضعفاً، لكن هذا لن يمنعنا من تطبيق المعايير التي اعتمدها بريجنسكي للخروج بتصورات حول قوة الدور السعودي في الفترة المقبلة. لقد برز الدور السعودي في منطقتنا خلال العقد المنصرم، وأصبح يحمل التزاماً حتمياً لوضع بصمته المؤثرة في مسار الأحداث السياسية والاقتصادية، بما يحقق المكانة التي يجب أن تكون عليها السعودية في العقود القادمة، بعد التراجع الدراماتيكي للقوى الإقليمية، فالعراق خرج بالكامل من المعادلة، وسوريا ضعف دورها إلى حد كبير وانشغلت بالوضع الداخلي، وتراجع الدور الذي كانت تقوم به بعض الدول العربية بعد الزلزال الذي أصاب الطبقة الاجتماعية وضعف الاقتصادات وتشرذم القوى السياسية. كل هذا أدى إلى تعاظم الدور السعودي، وشهدنا ولادة محور قوي في المنطقة تقوده السعودية، وأصبح يحسب له حساب في المعادلة الاستراتيجية في المنطقة. وعلى الرغم من أننا لن نذهب بعيداً عن رؤية بريجنسكي حول اعتماد النماذج الإقليمية (بما فيها إسرائيل) على قوة النموذج الأمريكي، إلا أننا لن نتجاهل الإشارات التي تشير إلى تعاظم هامش المناورة في فاعلية واستقلال الدور السعودي، الذي بات واضحاً أنه يعمل وفق اعتبارات مستقلة نسبياً عن السياسة الأمريكية، وهذا يؤهل السعودية لتكون قوة إقليمية كبرى خلال العقدين القادمين. ولأن بريجنسكي أعطى للاقتصاد الأولوية في الحكم على النماذج، فنحن سنحذو حذوه لنقرر أن قوة الاقتصاد السعودي والأرصدة والاستثمارات السيادية الضخمة التي تمتلكها ستعزز من قوة واستقرار السعودية في هذا العالم المضطرب. كما أن الزيادة المضطردة في حجم الاقتصاد غير النفطي للسعودية سيكون له تأثير كبير في ترسيخ الاقتصاد السعودي. قوة واستقرار النظام المحافظ هو عامل مهم في قوة النموذج، والنموذج السعودي أصبح نموذجاً جاذباً في ظل الفوضى والتطرف الذي يجتاح المنطقة، حيث إن الوسطية والتوافقية والتضامن المجتمعي أصبحت مطلباً لكافة القوى السياسية التي تروم التأقلم مع المتغيرات العاصفة. هناك أمر مهم لم ينتبه له بريجنسكي في سياق فحصه لقوة النماذج، وهو قوة الاستخبارات القومية، ويبدو أن هذا الأمر يدخل في منطقة المسكوت عنه، أو أن بريجنسكي يعده أمراً بديهياً. وهنا لا بد لنا من الإقرار بأن الأداء المتميز للاستخبارات السعودية خلال العقد المنصرم سيعزِّز من الدور الإقليمي السعودي، فلقد تعاملت الاستخبارات السعودية بكفاءة عالية مع كافة الملفات الإقليمية، السوري والمصري والعراقي واللبناني، واستطاعت أن تعزز من فاعلية الدور السعودي في المنطقة. وكان للتحالف المصري السعودي في ظل قوى 30 يونيو في مصر أثر كبير في موازين القوى في المنطقة، التي عززت وستعزز حجم الدور السعودي الذي كان بارزاً لعقود، وسيصبح أكثر وزناً من أي وقت مضى خلال العقود القادمة.