مما لا شك فيه أن بناء الإنسان عملية صعبة تحتاج لتكامل مؤسسات، وإن مُعالجة مُشكلاته غالباً ما تتطلب التعامل مع مختلف تلك المؤسسات التي تتقاطع أو تلتقي في المساهمة برسم حياته. إلا أنه في الواقع قليلاً ما نجد هذا الدور التكاملي في عملية البناء الإنساني، حيث أنه عادة ما يطغى دور مؤسسة ما أو أكثر على سواها بغض النظر عن طبيعة المشكلة أو ما تتطلبه من حل. وتختلف المجتمعات في تركيزها أو انطلاقها من هذا الجانب أو ذاك للتعامل مع أمورها، ولعلَّ أشد تلك الجوانب أو «الخلفيات المعرفية» وضوحاً هي الخلفية الدينية التي تعتبر زاوية النظر لكل أمور المجتمع؛ إلا أنه غالباً ما تكون هناك «أُطر معرفية» أخرى أقل وضوحاً إلا أنها ليست أقل تأثيراً في التشكيل الذهني للمجتمعات. منها الخلفية الاقتصادية أو الفكر الاقتصادي الذي ينتمي إليه المجتمع، وعلى اعتبار أن مجتمعنا ينتمي إلى الاقتصاد الريعي أو شبه الريعي – الذي هو في طريقه للخروج من هذا النمط – نجد أن الذهنية المجتمعية العامة هي ذهنية ريعية يطغى فيها التعامل مع المشكلات من باب ضخ الأموال دون تقديم إستراتيجة للحل، حيث يتم التعامل مع كل العُقَد المجتمعية من باب رصد الميزانيات فقط، أي من الجانب الكميّ فقط دون الجانب الكيفي الذي يُعتبر أشد صعوبة وأكثر عقبات، والذي يتطلب التعامل مع مسائل حسَّاسة في مُجتمعاتنا، منها المسألة الثقافية، ولعلَّ من أشد الأمثلة وضوحاً هي الجمعيات الخيرية، التي يقتصر دورها غالباً على تقديم المساعدات المادية، على الرغم من طغيان المشكلات الاجتماعية في المجتمع على المشكلات الاقتصادية، إلا أننا نكاد نقول إن هناك فقداناً لأدوار أساسية لتلك الجمعيات، كالتدخل الأسري. وفي حقيقة الأمر أن فقدان هذهِ الأدوار أو تعذر القيام بها، إنما هو لما تتطلبه من تعامل مع مسائل شديدة التعقيد في مجتمعاتنا تتصل بالعادات والموروث الاجتماعي الذي يُعتبر من المسلمات أو المقدسات غير القابلة للنقاش، التي يتم حمايتها بعصبيات مُتنوعة. كما ينعكس وضع الدولة الريعية على التعليم حيث نجد أن الدولة في الغرب لا تتدخل في العملية التعليمية وكل ما تفعله هو وضع الأسس والمبادئ والإرشادات الخاصة بالتعليم المتميز، بينما نجده في الدول الريعية يعود بكل أنظمته للدولة. وتصرف المملكة ما يقارب 25% من الميزانية على التعليم، وحسب تقرير التنمية البشرية في العالم للعام 2013 -الذي يغطي 186 بلداً، ويقيس مستوى التنمية البشرية والتعليم والصحة ودخل الفرد، وضع هذا التصنيف المملكة بالمرتبة ال57 عالمياً. إن الأمثلة في واقعنا كثيرة، وهي لا تقتصر على المؤسسات العامة للمجتمع، فنحن نتعامل بذهنية ريعية غالباً حتى على المستوى الخاص، وفي داخل الأسرة. ويفسر جورج غورفيتش المسألة في كتابه «الأطر الاجتماعية للمعرفة» بالحِراك التوليدي الداخلي للمجتمعات، الذي يتم طِبقاً لتجاربها التاريخية والسياسية. العقل الريعي عقل كمي ذو بعد أفقي واحد، لا يجيد التعامل الكيفي مع المشكلات المجتمعية التي هي مشكلات معقدة تحتاج للتناول من أبعاد مختلفة، كما تحتاج لإدراك عمليات التفاعل القائمة بينها بدءاً بالسياسة ووصولاً للثقافة وما يقع بينهما من أبعاد أو عناصر اقتصادية، ومجتمعية، ونفسية، وطبيعية.. إلخ إن التماهي الاجتماعي مع الاقتصاد الريعي للمجتمع يعتبر ظاهرة بنيوية تنسحب معرفياً على أنماط السلوك ومختلف الظواهر الثقافية في موضوع الإنتاج، والاستهلاك، والكفاءة المهنية، وقابلية المجتمع للتغير، والحراك الاجتماعي، وكل ما يتعلق بنمط حياة المجتمع.