نحن أمّة الشِعر ولا شكّ، فهو ديوان العرب وحافظ تراثهم والمدوّن لتاريخهم، وللشعر في نفس العربيّ منزلة خاصة لا يصل إليها فنّ من الفنون؛ ولذلك كانت القبيلة بأعيانها وفرسانها وقادتها وأشرافها تقيم الاحتفالات الكبرى إذا نبغ منها شاعر! وقد كانت للشاعر سُلطة جبّارة على المجتمع، فهو مَن يوشّي قصيدته بمكارم الأخلاق ليتبعها الناس ويمدح المآثر الجليلة ويذم الصفات السيئة، بل قد يصل به الحال إلى أن يتمادى ليعلّم الناس ما ينبغي وما لا ينبغي! هكذا كان الشاعر في بعض وجوهه في مجتمعنا القديم، وهو بهذه الصورة اليوم عند شعراء «العامية»، فالشاعر النبطي يحظى بكثير من الاحتفائية والتقدير والتبجيل؛ سواءً ذلك في الرصيف المظلم أو في البلاط اللامع! والشعر الفصيح؟! لقد فقد شيئاً غير قليل من بريقه و وهجه، لأسباب متعددة لعل أبرزها: غياب الاهتمام الرسمي بهذا الشِعر مما جعل الناس لا يهتمون به «والناس على دين كُبرائهم»، وأيضاً ضعف اللغة العربية عند طلابنا وأساتذتهم! وكذلك: الصورة النمطية التافهة للشعر الفصيح والتي كرّسها الإعلام في بعض الأوقات حتى أضحى الشاعر الفصيح في هذه المسلسلات يقول: «هزه»عوضاً عن «هذه» وأستغفر الله من شناعة اللحن وقبح اللفظ! لن تنهض أمة من الأمم قبل أن تنهض بلسانها، العلوم الإنسانية مُتّكئة على التفّكير، والتفكير لا يتم بلا لغة واسعة عظيمة ثرية تستوعب نقائض العقل وأهواء الروح وتعبّر بشجاعة ودقة عما تريده! لا نهضة تكنولوجية إلا وتسبقها نهضة في الفكر والفلسفة والأدب، ولا نهضة لهذه الثلاث دون لُغة! لكلّ ما مضى ولأجله فقد الشاعر «الفصيح» بعض سلطته، لكنه لم يفقدها كلها، لايزال قادراً على الصمود والأداء، والدليل على ذلك «كما يقول صديقي راضي المصارع» إن الشعر يؤثر أكثر من غيره؛ فلو كُتب عنكَ -أيها القارئ- مقالٌ يمدحك أو يذمك لم يكن تأثيره كتأثير قصيدة تُمدح بها أو تُهجى!