إحدى إشكاليات العقل العربي -في اعتقادي- هي التبعية المطلقة لتعميمات جائرة وكأنها وحي مطلق. فنحن أمة جُبل غالبيتها على تهميش إعمال العقل على الرغم من أنه من أبجديات ديننا الإسلامي، ومن مطالباته الأساسية إعمال هذا العقل من خلال التفكر في خلق الله، ومن خلال المطالبات بالقراءة وهي من المرتكزات الأساسية التي بني عليها الإسلام وأول مطالبات الوحي قال تعالى (اقرأ باسم ربك الذي خلق). ويتضح ذلك بجلاء في المقولة التي جُبلنا على ترديدها، وأعني بذلك أن الاستشراق بمجمله كان معول هدم لتراثنا الإسلامي باعتباره إحدى الوسائل التي استخدمها الغرب في محاولاته للنيل من الإسلام. إن الاعتقاد السائد لدى الكثيرين بأن الاستشراق ينبغي أن يقرن مع الاستعمار والتنصير، وأن كل ذلك يشكل ثالوثا يقف بالمرصاد لأي مظهرمن مظاهر النهضة في العالم الإسلامي، وأن المحصلة النهائية لذلك هو تغريب المسلمين ونزع المبادئ الإسلامية من قلوبهم، هو في اعتقادي رأي مغلوط ويجب إعادة النظر فيه جملة وتفصيلا. فيستطيع الباحث المحقق والمنصف أن يكتشف أن العديد من المستشرقين كان لهم جهد ملموس في جمع المخطوطات وفهرستها، بل تجاوز ذلك إلى التحقيق والنشر كما قاموا بترجمة مئات الكتب العربية والإسلامية إلى اللغات الأوروبية؛ مما أسهم بشكل أساسي في تعريف الشعوب العالمية بموروثنا الثقافي والديني، وأسهم في إزالة الكثير من الالتباسات التي علقت بالذهنية الأوروبية عن الحضارة الإسلامية لعقود. تلك الالتباسات التي أعتقد جادا أنها كانت إحدى الأسباب التي غفل عنها المؤرخون في رصدهم للأسباب الرئيسة والتي تقف وراء اندلاع الحروب الصليبية ضد المشرق العربي. إن العديد من الأوربيون الذين اعتنقوا الدين الإسلامي خلال عقود كانوا يرددون في الغالب أن أحد الأسباب التي عرفتهم بالإسلام ودعتهم للبحث بشأنه ومحاولة استقصاء كينونته هو قراءتهم لترجمات معاني القرآن الكريم التي نقلها إلى اللغات الأوروبية المستشرق الشهير(جورج سيل)، كما أن أوروبا لم تكن ستتمكن من فهم الإسلام بمصداقية إلا من خلال الجزأين اللذين أعدهما عن تاريخ الإسلام المستشرق (سيمون أوكلي) بالإضافة إلى محاولته الجادة والجميلة والتي تعلقت بنقله للعالم أجمع تطور العقل الإنساني في (حي بن يقظان) لابن طفيل. أما بخصوص الداخل الإسلامي فإن الفضل بعد الله يعود إلى ثلة من المستشرقين الذين قاموا بتحقيق ونشر كتب السنة النبوية والسيرة والمغازي وكتب التفسير؛ فأسهموا بجهدهم في حفظ الكثير من موروثنا الديني من الاندثار، وخاصة بعد حادثة إغراق الكتب الإسلامية في نهر الفرات والتي أقدم عليها التتار وفق أدبياتنا التاريخية عام 656ه. من البديهي أن الدور الذي حدده المفكر الراحل (إدوارد سعيد) للاستشراق والذي أشار فيه إلى أن المستشرق لو خُيِّر بين ولائه وميوله للشرق أو بين ولائه للمستعمر الغربي فإنه لا محالة سيختار ولاءه للمستعمر الغازي هو رأي لا غبار عليه. بيد أنه علينا أن ندرك أن هذه هي طبيعة النفس البشرية والتي جُبلت على حب الأوطان أولا وأخيرا والولاء لها بالمطلق، فنحن على سبيل المثال كمسلمين موالاتنا بالدرجة الأولى هي لأوطاننا وانتماءاتنا الدينية على حساب ما درسناه أو أُعجبنا به لدى الغرب. إن تاريخنا وأدبياتنا بحاجة إلى إعادة مراجعة، ولتكن تلك المراجعة منصفة ولا تتسم بالتخويف من الآخر أو اعتقاد الشر والسوء في تفاعل الآخرين مع موروثنا، كما لا ينبغي أن نتعاطى مع غالبية الأمور وفق مقولات موروثة تتسم بعدم الدقة والمصداقية، فنحن ولدنا لإعمال عقولنا وصولا إلى الحق ليس لترديد مقولات عفى عنها الزمن وكأننا ببغاوات لا تجيد سوى المحاكاة.