في ورقتي التي قدمتها الأسبوع الماضي داخل قسم الدراسات الشرقية التابع لجامعة هارفرد، احترت بداية في اختيار المدخل الذي سأقدم به نفسي وتجربتي الأدبية إلى محفل علمي عريق، ولكن في النهاية قررت أن أطل عليهم من شرفة (بيت الحكمة) كونه واحداً من أوائل الأكاديميات العلمية في الشرق وفي التاريخ أيضاً والتي كانت تمارس نشاطها الفكري والأمبريقي بشكل استقلت به عن المؤسسة الدينية. بالطبع لم يناقشني أحد في رغبتي الطفولية بالتفاخر بالأسلاف.. ولكن بالعكس استجابوا لهذا الطرح وأكدوا أن جذوة العلوم والمعارف، ظلت محفوظة لدى العرب لمدة 800 عام بعد انهيار روما في القرن الخامس الميلادي ودخول أوروبا عصر الظلمات بموازة سطوع الضوء الإسلامي، هذا قبل أن يتم تداول المشعل مع عهد النهضة والتنوير وعودته للغرب، لذا فإن تاريخ وآداب وفنون العرب تزدان بمكون معرفي عريق. وهذا ما لمسته حقيقة بوضوح في قسم الدراسات الشرقية في هارفرد، حيث تبرز حالة اهتمام كبيرة بالجزيرة العربية ومنتجها الفكري على اعتبار أن الأدب يرتبط بتاريخ الفكر، وتاريخ الفكر يرتبط بالتطور المادي في البنية التحتية، حيث التحولات الاقتصادية الهائلة من مجتمع شبه رعوي بسيط إلى مجتمع استهلاكي، أزاح خريطة الاهتمام التقليدي عن الهلال الخصيب الشامي ومصر كمراكز حضارية في العالم العربي، بدأت تتجه البوصلة المعرفية الآن للاهتمام بالجزيرة العربية لدراسة كيف تعبر الأفكار عن نفسها من خلال النتاج الفكري والأدبي. الباقي كيف نستثمر نحن هذا الانزياح والاهتمام داخل تلك القلعة المعرفية العريقة؟ والتي تأسست عام 1630، أي قبل حتى أن تتوحد الولاياتالمتحدة، وظلت محتفظة بتوهجها وسمعتها العالمية، رغم الحروب الأهلية، والانهيارات الاقتصادية التي مرت بها الولاياتالمتحدة، وطوفان من الفكر الرأسمالي الاستهلاكي الذي يميل للتسطيح والتتفيه، لكن هارفرد كما تبدى لي استطاعت أن تتماسك وتحافظ على هيبة قيمها العلمية داخل حدود الحرم الجامعي. واستطاعت أن تؤسس لبروتكولات علمية دقيقة وصارمة، على سبيل المثال في قسم الدراسات الشرقية لابد أن يتقن عضو هيئة التدريس ثلاث لغات على الأقل، وأن يصدر كل سبع سنوات مؤلفين، يتضمنان الأصالة والجدة بحيث يمثلان إضافة للمكون المعرفي العالمي، وإلا ستصبح مكانته العلمية داخل هارفرد مهددة. وحتما عند مقارنة هذا الأمر بما يحدث في أقسام جامعاتنا (التي تحولت داخلها القاعات الأكاديمية إلى صفوف مدرسية تحرص على المعرفة عبر جدول الدرجات والإجابة الوحيدة القطعية لكل سؤال بشكل يغيب الفضول المعرفي والنقد العالمي).. سيتبدى لنا موجعاً الفارق الحضاري. تلك الأوساط الآن تبدي اهتماماً فائقاً بالنتاج المعرفي لأدب الجزيرة العربية، أعتقد أنه من الواجب استثمار هذا الاهتمام بشكل إيجابي وذكي أيضاً فكرسي للأدب العربي هناك من شأنه أن يعالج أقفال المضمر ويسلط الضوء على المتواري من حضارة وتاريخ المنطقة، وسيضيف حتماً الكثير من التصور الذهني الإيجابي عن المنطقة وسكانها، ذلك التصور الذي دفعنا يوماً ما (وتحديداً بعد 11 سبتمبر) الملايين لشركات العلاقات العامة الأمريكية لتلميعه، بينما داخل تلك الجامعات العريقة تصنع عادة الأفكار والدراسات والبحوث التي تؤثر على السياسات بشكل كبير. طوال التاريخ ظل اليهود بذكاء ماكر يحذقون في كيفية الاستثمار من أجل السيطرة على مفاصل صناعة الرأي العالمي، وهاهم ضمن هذا السياق قد أسسوا لهم في هارفرد كرسياً لدراسة الأدب العبري. دولة عُمان أسست كرسياً للأدب العربي في جامعة جورج تاون، بينما مع الأسف جامعة هارفرد تخلو منه. أعتقد أن داخل تلك المؤسسة العلمية الهائلة، تتم صناعة الكثير من المنتج المعرفي العالمي لترويجه وتسويقه وصناعة الخرائط المعرفية لشعوب الأرض. ومن هنا لابد أن نولي المزيد من الاهتمام لهذه المنطقة المهملة في علاقاتنا الدولية. لمراسلة الكاتب: [email protected]