في الأمس كانت الحماسة وروح المنافسة لا تطغى على الأخوة والألفة، فالجماهير مهما كانت النتيجة ومهما كان انتساب الفريق الند ففي آخر الأمر تربطنا المحبة والأخوة والتعايش، وغدونا اليوم تكاد الجماهير أن تقتتل فيما بينها تعصباً وتأييداً قد علم كل أناس مشربهم، ولكل وجهة هو موليها فلكل فرد أو مجموعة هدف أو أهداف، منهم من يسعى إلى تحقيقها بكل جد وعزيمة، ومنهم من أهلكه التسويف، فلا بلغ هدفا ولا حقق غاية. والهدف السامي تشرئِب إليه النفوس السامية، وتسعى إليه الهمم العالية. ومن يحقق الهدف هو الطموح في غايته، الجادّ في فعله، الذي استخدم كل مهاراته المتاحة لتحقيق ما يصبو إليه، وإصابة الهدف بذاته ليس غاية بقدر ما هو دليل النجاح، وعلامة الفوز. وقد جبل الناس على حب التفوق، واحترام المتفوقين، ولذلك تجد كل فرد في المستطيل يساند صاحب الحظ الأقوى في تحقيق الهدف؛ لأن الوصول إلى الهدف لا يسجل لمحققه بمفرده، وإن كان يناله منه نصيب، بل هو نصر للجميع كلٌّ بما قدم من عون ومساندة. لا أعني بالهدف ذلك الذي يسجل بركلة الكرة فيما بين الثلاث القوائم، إنما أعني الهدف الذي من أجله أنشئت الرياضة بأنواعها، وتكتلت التجمعات الرياضية في كثير من الأطر المسماة بمسمياتها، فتارة (دوري) وتارة (كأس العالم) وتارة (كأس الأمم)..الخ. وما نحن فيه من زخم رياضي لا يخرج عن هذا الإطار، إنه دورة كأس الخليج العربي، فعندما نتحدث عن كأس الخليج فنحن ننظر إليه من جوانب شتى، فنغلب جانباً على جانبٍ آخر تبعًا لما قعّده وأصلّه علماؤنا وفقهاؤنا من بناء الأحكام على ما ترتبت عليه من المصالح والمفاسد. والذي ينظر إلى كرة القدم من منظار واحد وهو أنها لهو، واللهو ينبغي لحامل العلم والشرع والحصافة أن يجتنبه، ويتلو "وإذا مروا باللغو مروا كراما" لم يبعد النجعة، ولكني أظن أن هناك زاوية أخرى يمكن أن ننظر إلى هذه اللعبة من خلالها، فينبغي أن ننظر إلى هذه اللعبة من حيث الجماهير العاشقة لها، والذين أصبحت الكرة والحديث عن الكرة يشغل الحيز الأكبر من حياتهم، وخصصت لذلك قنوات ومواقع وصحف، بل تعدت حدود الأوطان إلى ما وراء البحار، وأصبح الشباب ذكوراً وإناثاً يتابعون فرقاً أوربية، ويشجعونها، ويتناقلون أخبار بعض لاعبي دول أمريكا الجنوبية، ويحملون صورهم على صدورهم. إذن هي واقع قد لا يخرج كثيراً عن دائرة المباح الذي يُعطى حكم المقصود المنوط به، وهذا من حيث الأصل. وفي كأس الخليج تلتقي جماهير كثيرة من خليجنا الحبيب، هذه الجماهير ينبغي أن لا يكون مقصدها الأكبر هو اللهو، كما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يحمل عائشة ليريها الحبشة وهم يلعبون في المسجد لم يكن مقصده اللهو الصرف، لمن تأمل في سيرته، وسبر طريقته، وعلم مقاصد الشرع التي أتى بها، إنما كانت له مقاصد جمة، منها بيان أن هذا الدين لم يأت فقط لأطر النفس وكبتها، إنما فسح لها في المباحات ما يكون أدعى لها وأنشط، ولا يقتصر ذلك على كرة القدم ولكنها طغت على كل ما في ساحتها من مباحات، لذلك لا ينبغي لحامل دعوة أن يتجاهل هذا، أو أن يقف ضدًّا في وجه من يعلم أنهم الأرضية الخصبة لدعوته، فالجماهير هي رأس مال الداعية الذين يسلك من أجل هدايتهم كل سبيل ويطرق كل باب، وإذا تأملنا جيداً في مثل هكذا حدث نجد أصنافاً كثيرة من الناس يكتنفون هذا الحدث، فمنهم من يستغل فرصة للترويج لتجارته والكسب المالي، ومنهم من يستغل الحدث لكسب الشهرة ومحبة الناس، فبينما هو مغمور في أوساطهم ما إن يشارك بجولة من جولاته إلا وتلقفته الكاميرات والقنوات وطبعت صوره على صدور الشباب وتسابق الشباب في تقليده، الخ، ومن الناس من يستغل الحدث سياسيًا في الترويج لحزبه أو لإعادة انتخابه ونحو ذلك، فأين موضع استغلال الدعاة للحدث، بل إنه يستغل الحدث أناسٌ للتنفير ممن يحملون العلم والدعوة مستغلين عواطف الشباب بتوسيع الهوة بينهم وبين حملة الدعوة، لذلك لا يبعد الوجوب في طرق هذا السبيل من سبل الدعوة إعلاميا وخطابة وكتابة ونشر على مواقع التواصل ونحو ذلك، وما ظني أن يعجز من أعطي لساناً وبيانًا عن بيان المنهج الوسط في ذلك وعن مسابقة ذوي النيات المعتمة إلى هؤلاء الجماهير، وليس الحديث يتركز على هذا الجانب بل سأعرج إلى تذكير هذه الجماهير بالهدف النبيل من هذه الرياضة وبالأخلاق التي ينبغي للجماهير وللاعبين وغيرهم أن يتحلوا بها، في الوقت الذي نلاحظ فيه فرقاً كبيراً بين رياضة الأمس ورياضة اليوم، ففي الأمس كانت الحماسة وروح المنافسة لا تطغى على الأخوة والألفة، فالجماهير مهما كانت النتيجة ومهما كان انتساب الفريق الند ففي آخر الأمر تربطنا المحبة والأخوة والتعايش، وغدونا اليوم تكاد الجماهير أن تقتتل فيما بينها تعصباً وتأييداً. ولا بد من تثبيت أمور قبل وأثناء وخلال التحليل الرياضي وغيرها أن هناك رابطاً يربطنا، هو الدين الواحد الذي أمرنا بالتزاور والتجاور والتآلف، فما أحلى أن نسمع الجماهير وهي تهتف بكلمات وأهازيج تصب في توطيد العلاقة الأخوية بين الفريقين وجماهيرهما الأمر الذي ينعكس إيجاباً بتداعياته على دول الخليج محبة وألفة وترابطاً، ولنستغل هذه التجمعات قبل كل شيء في زيادة التلاحم والتماسك والتآخي بين دول الخليج في إطار هذه الدورة غير محيزين هذا الهدف عن الأهداف النبيلة التي يأمر بها شرعنا السمح. في الأخير سنبارك لمن يتغلب بأخلاقه وسلوكياته، وسنكون جمهوراً واحدًا نهتف بصاحب الأخلاق العالية والروح الرياضية الذي لا يسعى برياضته إلا لهدف نبيل وندعو كل من يستطيع أن يوظف الحدث في صالح هذا الهدف أن لا يبخل ولا يستنكف عن المساهمة في بابه وإطاره ليظهر التفاعل الحيوي ليس مع "الكرة" وإنما مع أولئك الجموع الغفيرة من الشباب الذين سيكونون بلا شك صناع المستقبل وعلى أكتاف الشباب تقوم الدول.