مع موسم الحج في كل عام نتأمل في التاريخ الطويل لهذه الشعيرة الدينية الذي بدأ منذ رفع إبراهيم عليه السلام القواعد من البيت ونتذكر ما يرتبط بها من ظروف سياسية واقتصادية وأحوال اجتماعية وثقافية تمتلئ بها صفحات المصادر المختلفة. ومع تلاشي كل الصعوبات في ظل الدولة السعودية التي ما زالت تواصل خدمتها لضيوف الرحمن مستنفرة كل إمكانياتها في سبيل توفير الراحة التامة للحجيج في كل مكان خلال فترة وجودهم في أراضيها. ونظراً لأهمية طرق الحج التاريخية فإن مسألة تحقيقها يبقى عملاً علمياً محضاً يضع بين يدينا خريطة ليست لطرق الحج القديمة وحدها بل لطرق القوافل بشكل عام بل صورة بانورامية تاريخية للحياة في الجزيرة العربية، هذه الطرق التي كان أشهرها (درب زبيدة) ذلك المشروع الحضاري العملاق الذي بدأ من العراق وانتهى في مكةالمكرمة خلّد ذكر امرأة عربية نبيلة على مر العصور وما زلنا إلى اليوم نتذكر هذا الدرب ونجد آثاره صامدة في صحاري الجزيرة العربية. نعم هناك تحقيقات ومجهودات لعدد من الطرق سواء للدكتور سعد الراشد أو الأستاذ عبدالله الشايع أو غيرهما من الباحثين ولكني أتساءل عن مشروع علمي أو أطلس متكامل لطرق الحج البرية على الإبل أولاً ثم على السيارات تالياً من شمال الجزيرة العربية وجنوبها وشرقها ومدى تغيّرها وتطورها عبر التاريخ، ومتى تم الاستغناء عنها؟ وهل تأثرت الطرق الحديثة في رسم اتجاهاتها بطرق الحج القديمة؟ إننا نتحدث عن طرق عبرت الصحراء العربية التي ظلت كما خلقها الله قروناً طويلة لدرجة أن العابر لها يتصور بسبب انعدام مظاهر الحياة فيها بأنه الكائن الحي الوحيد في هذا العالم كما ورد في كتابات بعض المستشرقين!! وبينما يزعم زويمر في مستهل كتابه (رحلات متعرجة في بلاد الإبل) أن العرب مثل الجمل لا يحبون الطرق المستقيمة فلم تكن الطرقات أبداً متوازية أو بمنعطفات قائمة ولكنها تمتد عرضياً بكل أشكال الطرق ما عدا أقصرها!! فإن هذا المنصّر المستشرق يظهر جهله بواقع الحياة في الصحراء بغباء متحيّز ضد العرب مغفلاً تأثير التضاريس وموارد المياه في رسم خريطة الطرق واتجاهاتها في الصحراء القاحلة!! وبالإضافة إلى ذلك فإنه في حال تحقق الأمان على هذه الطرق وهو أمر نادر في الماضي فمن المستحيل أن تسير قافلة من القوافل بدون أن يكون معها دليل يرشدها إلى الطريق الصحيح حيث يحكي برترام توماس الذي كان أول غربي يعبر الربع الخالي أن الإرشاد في الصحراء لا يعتمد على ذاكرة الاتجاهات فحسب بل على حدس وبديهة حاضرة ويقظة تستشعر من خلالها أماكن وجود الماء والمرعى بالإضافة إلى القدرة على فك شيفرة وطلاسم الرمال وتجنب الشرور التي قد تقود إليها الآثار المرسومة على وجه الرمال!! فلا يملك كل عربي يولد في الصحراء القدرة على الإرشاد إلى الطريق ففي حقيقة الأمر يضل الكثيرون الطريق ويقضون من العطش خاصة عندما يشرد الجمل في الصحراء صيفاً ويضطر أصحابه لتتبع أثره ويعتمد عند عودته على تتبع آثار أقدامه أو آثار أقدام الآخرين وهي أكثر الطرق أمانا لمن ضل الطريق للوصول إلى الماء...ولكن الرياح تمحو كل آثار الأقدام وهي خطر قائم في أي وقت ولا يمكن التنبؤ به !!! معيار....دروب الحج