إذا كان القلة المتوقدون لايقْبَلون أن يحتجزهم أيُّ تخصص فيندفعون تلقائيًّا للإبداع في مجالات متنوعة فإنه بالمقابل يظل الفرد مأخوذًا غالبًا ببرمجة الطفولة وهي قابلة للتمدُّد والتأجُّج ولكن ضمن الإطار ذاته بعيدًا كل البُعْد عن مجال التخصص الدراسي للشخص ومن دون أن تتأثر بنيته الذهنية المتكوِّنه تلقائيًّا أدنى تأثُّر بما تلقَّاه من علوم لابد أن ندرك أن التعليم الاضطراري مهما طالت مدته ومهما عَلَت شهاداته ليس طريقًا للإبداع وإنما هو طريق للمهنة، إنه مفتاح الدخول لمواقع العمل ومع كل الوقت الذي يقضيه الدارسون في مراحل التعليم فإنهم يدخلون العمل من دون مهارة عملية. إن الخريج بعد الالتحاق في العمل يبدأ في اكتساب مهارة الأداء وذلك لأنه يوجد اختلافٌ نوعيٌّ بين المعرفة النظرية، والأداء العملي ثم إن امتلاك مهارة الأداء لايتحقق إلا بالممارسة الجياشة التي تتدفق باستمتاع ورغبة وشعور بالإنجاز وتحقيق الذات أما من دون ذلك فإن المتخصص يبقى كليلاً يؤدي العمل برتابة ثقيلة وحركة مملة وأداء كليل ونتاج عليل.. إن الإنسان كائنٌ تلقائي فهو لا يتحرك بفاعلية إلا إذا كان مدفوعًا باهتماماته الذاتية التلقائية العميقة سواء أكانت اهتمامات جيدة أم رديئة فلا تحركه دراسةٌ ذَهَبَ إليها اضطرارًا ونال شهادتها عُسْرًا بمعاناة ومكابدة فمن الأساسي أن نعْلم أو نتذكَّر دائمًا أن الدراسة الاضطرارية مضادة للطبيعة البشرية ولذلك تصاحبها رغبةٌ عارمة في الانتهاء منها وشوقٌ عميق إلى التحرر والخلاص من متاعبها لأن الدارس قد عاناها اضطرارًا من أجل المهنة ولقمة العيش أو الوجاهة وليس اندفاعًا تلقائيًّا إلى المعرفة ولا استمتاعًا بها وعلينا أن نتذكَّر في كل المواقف أن الانجذاب والنفور واللذة والألم من أهم مفاتيح الطاقة البشرية وأقوى محركات السلوك.. إن التعلُّم القسري أو الاضطراري يربك القابليات الإنسانية ويسدُّ منافذ العقل ويغرس في نفوس الدارسين المضطرين كراهية العلم والنفور من الكتاب.. ومن الظواهر التي تؤكد ذلك رَمْيُ وتمزيقُ الكتب المدرسية فرغم أن الإنسان خُلق ليعرف وأنه مندفعٌ تلقائيًّا إلى التعرُّف إلا أن الإكراه على التعلُّم أو الاضطرار إليه يربك هذه الطبيعة التلقائية ويلبِّك شهية حب الاستطلاع الفطرية. إن مسؤولية الإنسان أصلاً هي مسؤولية معرفية وأخلاقية في الدرجة الأولى لكن تلقائية الإنسان تأبى الإكراه وتنفر منه فأضرار التعليم القسري أو الاضطراري هي أضرار مدمِّرة، وإن تركيز الاهتمام على نيل الشهادة واضطرار الدارسين إلى الدخول في سجون التخصص ثم استساغة هذه السجون والتآلف معها والافتخار بها والاقتصار عليها والاكتفاء بها يمثل جنايةً كبرى على الإنسان وتبديداً لقسم كبير من سنوات عمره وتضييقًا لنطاق تفكيره وتقزيمًا لذاته وإغلاقًا لقابلياته العظيمة وإهدارًا لإمكانات إنسانية هائلة. إن تأهيل الإنسان للعمل ليس محتاجًا إلى كل هذه السنوات في التعليم بل إن حرمانه من الاحتكاك المباشر في مشاكل الحياة وإشغاله بحفظ معلومات نظرية فقط يبقيه ساذجًا ويؤخر نضجه.. إن التعليم رغم أنه يستغرق ربع قرن من أعمار كل جيل فإن نتائجه تأتي ضحلة وتُنسى بسرعة لأن قابليات الإنسان لاتنفتح إلا بالإثارة والاندفاع أو بالرغبة والاستمتاع أو بالاحتكاك والتفاعل المباشر مع مشكلات الوجود إن هذا يستوجب إحداث تغييرات نوعية في العملية التعليمية ليصير الهدف من التعليم بناء القدرات التي تبقى وتنمو وليس حفظ المعلومات التي تُنسى وتضحمل.. إن الإنسان يولد محبًّاً للاستطلاع إلا أن المعرفة شديدة التمنُّع على من يطلبها كُرْهًا واضطرارًا فالعقل لايتغذى بالإكراه ولا يهضم ما أُكره عليه وبالمقابل فإن المعرفة سريعة الانقياد سهلة التمثُّل لمن يأتيها باهتمام ذاتي تلقائي عميق سواء أكان مستثارًا بتساؤلات ذاتية ملحة أو كان مدفوعًا برغبة تلقائية جامحة.. إن الإنسان ليس نحلة أو نملة ليتم حصره في مجال واحد بل يجب الاتجاه إلى ما يسميه جون بروكمان (المثقف الكلي) فرغم تنوع العلوم وكثافة الحقائق العلمية واتساع آفاق المعرفة إلا أن المطلوب ليس الإلمام بالتفاصيل بل معرفة أساسيات العلوم من الأفكار والتصورات والمناهج وهذا ممكن لمن يبذل جهدًا كافيًا ومنظمًا فيجب استبعاد التهويل المثبط الذي يروجه أولئك الذين يخيفون الناس باستحالة تجاوز التخصص فيغرسون اليأس ويبررون الكسل فلا ينعتق من هذا العائق سوى القلة المتميزة.. إن الشواهد التي تؤكد أن التميز والإبداع امتيازٌ فرديٌّ وأنهما ليسا نتاج التخصص الدراسي تتجسَّد في جميع صور التميز والإبداع في كل المجالات ثم إن أهمية الشواهد تأتي من حقيقة أن الإبداع نادر بين الناس.. إن الإنسان يتأسَّس عقلاً ووجدانًا بما يتبرمج به في طفولته ورغم طول فترات مراحل التعليم فإن الدارس يبقى مرتَهنًا في الغالب بهذا التبرمج التلقائي المبكر باستثناء القلة المتميزة المبدعة التي تنفلت من البرمجة وترتقي إلى آفاق التميز والإبداع.. إن حيِّز هذا المقال لايتسع لتقديم أمثلة من كل المجالات لذلك ستكون نماذج هذا المقال من الذين تخصصوا في مجال واحد هو الكيمياء فتخلَّوا عنه وأبدعوا في مجالات متنوعة وسوف أورد في مقالات أخرى نماذج أخرى من مختلف التخصصات لتأكيد انفصال الإبداع عن التخصص الدراسي فالإبداع في أي مجال هو نتاج الموهبة السخية المستثارة والاهتمام التلقائي القوي المستغرق وليس نتاج الدراسة الاضطرارية البائسة مهما امتدَّتْ.. وعلى سبيل المثال فإن مارجريت ثاتشر دفعها اهتمامها التلقائي وطموحها إلى أن تتخلَّى عن مختبر الكيمياء لتدخل المعترك السياسي وتُناضل باهتمام قوي مستغرق لتصير أول أمرأة من عامة الناس ترْأس الحكومة البريطانية وقد جسَّدتْ القيادة السياسية بألمع وأنصع الصور، ولم يقتصر تأثيرها على بريطانيا وإنما امتد إلى كل العالم فقد كان لها دور كبير في سقوط المعسكر الشيوعي كما كانت إجراءاتها في الخصخصة مثالاً احتذته دولٌ أخرى كثيرة وليس هذا سوى بعض ما تركته في العالم من أثر عميق وممتد في الزمان والمكان.. إن الكاتب المتميز عبدالعزيز الخضر قد أبدع في مجال يختلف كليا عن تخصصه الدراسي فهو يحمل ماجستيرا في الهندسة الكيميائية لكن نشاطه الفكري وإنتاجه المميز لم يكونا في مجال تخصصه في الكيمياء وإنما انطلق هذا المبدع بفاعلية في مجال اهتمامه التلقائي العميق. لقد مارس العمل الصحفي بمهنية عالية وكان يكتب بأسلوب أنيق ورؤية عميقة كانت لديه رؤية ينظر بها إلى الأحداث والأوضاع والأشخاص والمواقف فيكتب انطلاقًا من هذه الرؤية.. ثم جاء كتابه (السعودية : سيرة دولة ومجتمع) ليمثِّل حَدَثًا ثقافيًّا مميزًا لقد رَصَد فيه المراحل والظواهر والعوائق والتداخلات والصراعات والتجاذبات في المملكة بشمول وعمق وهو إنجازٌ كبير يستحق تناولاً خاصًّا لايتسع له مثل هذا المقال.. إنه إنجازٌ جديرٌ بالاحتفاء فهو يمثل مرجعًا أساسيا عن المملكة ولا أعرف كيف تخطَّته جائزة وزارة الثقافة والإعلام.. ونذهب لمبدع آخر تختلف مجالات إبداعه عن مجال تخصصه لقد تخصص في الكيمياء الحيوية لكنه أبدع في مجالات شديدة التنوع والاختلاف فربما أن الكثيرين يستفيدون ويستمتعون بقراءة روايات ومؤلفات وكتابات اسحاق أزيموف من دون أن يهتموا بمعرفة تخصصه الأكاديمي فالإنسان لاينتبه إلا لما يهتم به ولا يجد إلا ما يبحث عنه لذلك تغيب الحقائق عن الأذهان ما لم يتحقق تكوين اهتمام عام بها.. إن أزيموف من أغزر وأشهر كتاب أمريكا وهو يحمل دكتوراه في الكيمياء الحيوية لقد كتب في الفن والعلم وأبدع في مجالات عديدة متنوعة فلم يبق حبيس التخصص الأكاديمي إنه يجسِّد المثقف المبدع الكلي بكل تجلياته الباهرة.. وننتقل إلى مبدع آخر مختلف أعني المثقف الرائع عابد خزندار إنه يحمل شهادة ماجستير في الكيمياء لكن الناس لم يعرفوه في مجال تخصصه وإنما عرفوه كاتبًا يوميًّا وروائيًّا مبدعًا وناقدًا مميزًا ومترجمًا متمكنًا ومثقفًا عميقًا ومواطنًا مخلصًا ومناضلاً بالغ النقاء والصدق.. نشأ عاشقًا للمعرفة مرتبطًا بالكتاب ومع أنه واصل الدراسة النظامية حتى نال درجة الماجستير في الكيمياء فإن هذه الدراسة الممتدة لم تستطع أن تطفئ عشقه للمعرفة ولا أن تُفسد علاقته بالكتاب خلافًا لأكثر الدارسين. إن لهفته المبكرة إلى المعرفة كانت شديدة التوقد ففي مقدمة كتابه (حديث الحداثة) يوضح بأنه منذ أن كان طالبًا في المرحلة الثانوية كان شغوفًا بالقراءة فيقول : (كنت أتردد على المكتبة كل يوم وأستعير منها الكتاب تلو الكتاب .. لاحَظَ الأستاذ عبدالله عبدالجبار ترددي المنتظم على المكتبة وتلهفي على استعارة الكتب وإعادتها في وقت قصير سألني هل تقرأ كل هذه الكتب قلت أجل) ورغم استمرار عشقه للمعرفة واكتظاظ ذهنه بها فإنه لم يتجه إلى الكتابة إلا بعد إلحاح متواصل من المثقف الرائد عبدالله عبدالجبار وكان قد بلغ الأربعين من عمره فالمبدع لايقرأ ليصير مبدعًا وإنما يصير مبدعًا لأنه نشأ عاشقًا للكتاب ومدمنًا على القراءة ومستمتعًا بالمعرفة إنه لا يخطط ليكون كاتبًا، وإنما تأتي القدرة الإبداعية ثمرة الاندفاع التلقائي إلى المعرفة. إن ذهنه يمتلئ معرفةً وفكرًا ومشاعر ورؤىً وتوقُّدًا فيفيض إبداعًا.. ولا يمكن أن نتحدث عن عابد حزندار من دون أن نُشيد بالجهد المثابر الذي بذله الباحث الرائع محمد القشعمي فلقد أصدر عنه كتابا حافلاً بعنوان (عابد خزندار : مفكرًا ومبدعًا وكاتبًا) وللقشعمي جهودٌ أخرى تُذكر فتشكر فهو يهتم بسير الرجال المتميزين الذين يستحقون الاهتمام.. وتوجد دراسة نقدية جادة وعميقة للباحث أحمد بن سليم العطوي بعنوان (أنماط القراءة النقدية في المملكة العربية السعودية : عابد حزندار أنموذجًا)، وأخيرًا فإنني أشعر بألم بأنه يتم تخطي هذا المبدع المميز عابد حزندار في التكريم فهو يستحق أن يكون (شخصية العام) في موسم الجنادرية فلا مبرر لاستمرار الإعراض عنه والتجاهل له.. ومن شواهد إبداع دارسي الكيمياء في مجال مختلف كليًّا النجم السينمائي الشهير فرانك كابرا فقد تخرج مهندسًا كيميائيًّا لكنه هَجَرَ مجال دراسته واتجه إلى مجال السينما من دون أية دراسة نظامية سابقة فأبدع في مجال الإخراج وفي مجال الانتاج وفي مجال كتابة السيناريو، ولقد صار من أشهر المبدعين في مجال السينما ونال ست جوائز عالمية. إن الإنسان لا يبدع إلا في مجال يعشقه ويندفع إليه تلقائيًّا وهو حين يكون كذلك فإنه يستطيع اكتساب المعرفة والمهارة اعتمادًا على نفسه فهو ليس محتاجًا إلى من يلقِّنه.. إن ندرة الإبداع عمومًا وبروز عدد من المبدعين في مجالات متنوعة خروجًا من تخصص الكيمياء وحْده يؤكد أن الإبداع فوق كل تخصص فهو تحليقٌ في الآفاق وانطلاقٌ حُرٌّ خارج سجون التخصص. إن الشاعر عبدالعزيز خوجة قد نال شهادة الدكتوراه في الكيمياء وعمل في الجامعة استاذًا لهذه المادة ثم دخل السلك الدبلوماسي ليعمل سفيرًا للمملكة في أكثر من قطر عربي ثم صار وزيرًا للثقافة والإعلام فلم يَعُدْ لتخصصه الأكاديمي أيُّ ثقل في تقييم مكانته الثقافية والإبداعية.. في حوار أجرته معه مجلة العربي الكويتية وصفته المجلة الجادة الرزينة بأنه : (صاحب تجربة فريدة في الشعر العربي المعاصر) ثم تقول المجلة : (الشعر هو سرُّ تفرده ومكمن إبداعه)، وقد كان إبداعه الشعري وسيظل من موضوعات البحث الأكاديمي. إن التاريخ سوف ينسى أنه قد دَرَسَ الكيمياء كما أنه أيضا سوف لن يتذكره إلا قليلاً كسفير ثم كوزير فالذي سيبقى له ومنه هو إبداعه الشعري الذي ظهر في أكثر من ديوان.. إن المبدعين الذين خرجوا من تخصص الكيمياء كثيرون وعلى سبيل المثال فإن تاريخ علم اللسانيات وتاريخ الانثروبولوجيا لن يتحدثا عن بنيامين لي وورف بوصفه متخصصًا في الهندسة الكيميائية وإنما بوصفه من أبرز علماء اللغويات وعلماء الانثروبولوجيا الثقافية، فقد هَجَر مجال اختصاصه الدراسي واهتم بالتكوين العقلي والثقافي للإنسان واشتهر بما عُرف باسم : (النسبية اللغوية) التي ترى أن كل لغة تُمَثِّل وتخلُق واقعًا مميزًا مختلفًا عما تخلقه لغاتٌ أخرى.. إن اسم وورف لا يأتي ضمن علماء الكيمياء التي تخصص بها أكاديميًا وإنما يأتي ضمن علماء الانثروبولوجيا الثقافية كما أنه يأتي ضمن علماء اللسانيات فالتخصص الحقيقي للإنسان هو مجال اهتمامه التلقائي العميق وليس مادَرَسَه اضطرارًا تبعًا لمواضعات المجتمع ومتطلبات العيش فالإنسان حين يُترك لنفسه تحركه اهتماماته التلقائية وليست اهتماماته القسرية ففي كتاب (أعلام الفكر اللغوي) لجون جوزيف وزميليه يأتي اسم وورف إلى جوار اسم عالم اللسانيات الشهير تشومسكي وغيره من مشاهير هذا العلم.. وتتنوع نماذج الإبداع خروجًا من تخصص واحد هو الكيمياء فالكاتب المتميز جاسر عبدالله الجاسر متخصص دراسيًّا في الكيمياء الحيوية لكنه قبل عشرين عامًا تقريبا فاجأ الوسط الثقافي بكتابات عميقة ونقد حاد وكانت تلك الكتابات إشهارًا لكاتب مميز وناقد بصير وباحث واسع الاطلاع ومثقف عميق الرؤية.. كان بزوغه المفاجئ والقوي يؤذن بمستقبل إبداعي مثير ومثمر، ولقد واصل الكتابة ثم أسهم بفاعلية في بروز جريدة الوطن ويعمل حاليًا رئيسًا لتحرير جريدة الشرق... إن المهتمين بفلسفة العلوم يتابعون فيلسوف العلم إميل ميرسون ويقرأون له ويستفيدون منه ليس بوصفه ذلك الذي تأهَّل أكاديميا في مجال الكيمياء وإنما يتابعونه بوصفه أحد فلاسفة العلوم وهو نفسه في مقدمة كتابه (الهوية والواقع) يؤكد أن كتابه : (ينتسب من حيث منهجه إلى حقل فلسفة العلوم أو علم العلوم) إنه قد أهَّل نفسه بنفسه مثل غيره من فلاسفة العلم فبوانكاريه جاء من مجال الهندسة وباشلار جاء من مجال الفيزياء، وبياجيه جاء من علم الأحياء حيث تحوَّل منه أيضا بمحض اهتمامه إلى علم النفس فأسهم في أكثر من مجال.. ونأتي للشاعر السوري الشهير عمر أبو ريشة فهو أيضا متخصص في الكيمياء يقول عنه الأديب الناقد أحمد الجندي : (انطلق اسم الشاعر عمر أبو ريشة في جو سورية انطلاقة البرق أو الصاروخ فقد علا صوته وبَعُد صيته وتحدث الناس به وبشعره ومن عَجَب أنه لم يدرس الأدب ولا تخصَّص بالشعر وإنما عمد إلى علم آخر لا صلة له بالفن ولا رابطة تربطه بالإلهام وهو علم الكيمياء) إن عمر أبو ريشة أشهر من أن يحتاج إلى إشهار إنه من أبرز الشعراء العرب المعاصرين.. لقد تخصص في الكيمياء لكنه هَجَرَه ليعمل في المجال الدبلوماسي فكان سفيرًا لسورية في أكثر من بلد ولكن التاريخ لن يحتفظ له إلا بإبداعه الشعري أما تخصصه في الكيمياء أو عمله الوظيفي فسوف يطويه النسيان.. إن برمجة الطفولة وما هو امتدادٌ لها هي التي تشكِّل ميول الإنسان العميقة واهتماماته التلقائية فتوجِّه سلوكه وتتحكَّم بمجالات نشاطه وتحدِّد اختياراته أما إذا انكسر الإطار الأساسي فإن الفرد هو الذي يحدِّد خياراته خارج البرمجة وخارج التخصص فشهرة المسرحي البرازيلي الدكتور أوغستو بول جاءت من المسرح وليس من تخصصه في الكيمياء.. رفيق شامي روائي وكاتب صحفي سوري يحمل الدكتوراه في الكيمياء من ألمانيا لكنه ترك تخصصه وتفرَّغ للكتابة وللإبداع الروائي في اللغة الألمانية يقول عنه الناقد المعروف محمود قاسم بأن إبداعاته : (نُشرتْ باللغة الألمانية في ألمانيا وسويسرا والنمسا كما تُرجمت كتبه إلى اللغة الهولندية وإلى اللغة الإنجليزية). وأشير باختصار إلى الكاتب والروائي المغربي إدريس الشرايبي الذي نال دبلوم الدراسات العليا في الهندسة الكيميائية لكنه انصرف عن تخصصه واستغرق في مجال اهتمامه فأبدع في مجال الرواية والقصة القصيرة وهو يكتب باللغة الفرنسية وله شهرة واسعة هناك إلى درجة أنه صار أستاذًا للأدب في جامعة لافال الكندية.. إن التميز لا يحدُّه تخصص ولا يعوقه تقييد فالخريج المتميز بعد أن يخوض غمار الحياة يدرك أنه لا يليق به أن يظل حبيسًا لتخصص دراسي انقذف إليه في سنوات مراهقته فالرئيس الصيني تشي جيان بنج تخصَّص في الهندسة الكيميائية ولكن اهتماماته التلقائية وطموحه وجدارته الإدارية وقدراته القيادية دفعته إلى القمة وسط منافسات قوية وكفايات قيادية عالية.. إن الإنسان حين يتأجج وعيه لا يرضى بأن يكون مجرد كائن مهني فهو يملك قابليات مذهلة وما عليه إلا أن يستثمر قابلياته العظيمة ليتدفق إبداعًا فالدكتورة زكية مال الله دَرَسَتْ الكيمياء ونالت الدكتوراه ولكن مواهبها المتوقدة بزغت في مجال الإبداع الشعري فأمطرتْ الناس بشعر أنثوي زاخر بالعذوبة وتلقَّى الناس دواوينها بالحفاوة فقد صدر لها عددٌ من دواوين الشعر منها (في معبد الأشواق) و(ألوان من الحب)، و(من أجلك أُغني) و(في عينيك يورق البنفسج)، و(من أسفار الذات). إن الإبداع مختلف نوعيًّا عن الدراسة التخصصية لذلك أختلف مع الدكتور عبدالفتاح عثمان الذي زَعَم أن الشاعرة : (تأثرت بدراستها العلمية في الكيمياء فطبقت مفهوم الكيمياء من حيث إنه مَزْجُ عنصرين بينهما تنافر في الظاهر لكنهما في جوهريهما يتقبلان المزج لتوليد عنصر ثالث جديد)، ويتضح من الشواهد السابقة أن دارسي الكيمياء أبدعوا في مجالات متنوعة متباعدة فهذا التنوع لا يدع مجالاً لمثل هذا الربط.. جاك ويلش الذي حقق بقدراته الإدارية الخارقة لشركة جنرال اليكتريك نجاحات أسطورية إن هذا الإداري الاسطوري متخصصٌّ أكاديميًّا في الكيمياء وليس في الإدارة ولكنه بدلاً من أن يبقى مسؤولاً عن مختبر الكيمياء أظهر قدرات قيادية استثنائية أهَّلته لمنصب الرجل الأول في الشركة فحقق نجاحات بهرت الجميع فصار أسطورة إدارية حتى قال عنه فرانسيس هورايب في كتابه (تكوين الثقافة الإبداعية) : (جاك ويلش يُنظر إليه على أنه أعظم مدير على قيد الحياة في العالم). (دريد لحَّام) معلِّم الكيمياء أصدر عنه الدكتور فاروق الجمال كتابًا ضافيًا أكد فيه أن : (دريد لحام عملاق الكوميديا العربية بلا منازع نجح ممثلاً ومخرجًا ونجح في كل ما تولاه من مهام أُوكلتْ إليه). إن معلِّم الكيمياء دريد لحام أبدع في كل ذلك كما أبدع كاتبًا وكما قال الناقد البارز محمد رضا : (لا يوجد معهد في أي مكان من العالم يستطيع تخريجك كاتبًا أو مخرجًا أو ممثلاً) وإنما هي الموهبة السخية المستثارة والاهتمام التلقائي القوي المستغرق.. وإذا كان القلة المتوقدون لايقْبَلون أن يحتجزهم أيُّ تخصص فيندفعون تلقائيًّا للإبداع في مجالات متنوعة فإنه بالمقابل يظل الفرد مأخوذًا غالبًا ببرمجة الطفولة وهي قابلة للتمدُّد والتأجُّج ولكن ضمن الإطار ذاته بعيدًا كل البُعْد عن مجال التخصص الدراسي للشخص ومن دون أن تتأثر بنيته الذهنية المتكوِّنه تلقائيًّا أدنى تأثُّر بما تلقَّاه من علوم كما هي حال فواز العبسي الذي ظَهَرَ مع الإعلامي الرائع داود الشريان في برنامج (الثامنة) فهو قد تخصص في الهندسة الكيميائية ولكن البرمجة التلقائية بعد تأجيجها هي التي تحكمت به وقد قال في المقابلة : (كنت أمنع التلفزيون في بيتي .. ووسائل الترفيه كانت المسجِّل والأناشيد الجهادية فقط .. والعلم الذي كنت أحمله لم يفدني في عدم الانحراف ولم أكن أمانع نهائيًّا بأن أُنَفِّذ عملية انتحارية) وأفظع من ذلك أنه أعلن أنه كان قد أعدَّ : (مخططا لتفجير مصفاة جدة). إن الناس يتوهمون أن الدراسة تغيِّر الأساس الذهني المتشكل تلقائيًّا ولكن الواقع يؤكد أن الدراسة الاضطرارية ليست أكثر من مدْخل مهني فقط أما البنية الذهنية الأساسية فتظل كما هي مهما كان محتوى التعليم ومهما عَلَتْ شهادته ما لم ينكسر الإطار الحامي للتشكُّل الذهني الأساسي..