الجنادرية أصبحت بشهادة المراقبين مشروعا تنويريا تراثيا انسانيا، وهي قادرة على تجاوز ما يعيقها من اقوال منافية لنبل أهدافها ومناقضة لدورها بدليل انها تحمل في مكوناتها احترام ثوابت الدين والدولة وفضاءات الفكر والثقافة والمعرفة عندما تقترب من الرياضالمدينة، تلمح وأنت في الطائرة كثبانا رملية شاسعة ثم لا تلبث ان تظهر امامك واحة عصرية بحجمها المهيب وبنيانها وطرقها وجسورها. ورغم ان العاصمة الشامخة تتعرض من حين لآخر لهبوب رياح وموجة غبار لينقلب نهارها ليلا، الا أن هذا لا يمنع حركتها الدائبة ولا يقاوم هديرها الاحتفالي بالإنجاز وقدرة الانسان وتفاعله الذي لا يتوقف ولا يهدأ. هي بذلك لا ترضخ للظروف المناخية ولا يقف امامها حاجز او مانع فهي ورشة عمل تموج بالأنشطة والمؤتمرات والملتقيات والفعاليات. هذه الرياض بعوالمها وكذلك هي الجنادرية. هذا المشهد تراءى امام ناظري فتأملته ما دفعني لمحاولة فهم، قدر جهدي، أسباب التهجم والقدح وسياط النقد الموجهة للجنادرية بدليل خروج البعض علينا بمواقف مسبقة تجاهها. تساؤلات جالت في خاطري لتشكل صورة مجازية تعبر عن نفسها بامتياز، فما الجنادرية سوى صورة من صور الرياض في مسارها التنموي والحضاري بدليل انطلاقها نحو افق التنوير، متجاوزة كل العوائق والعراقيل التي تهدف لتقويض إشعاعها التاريخي والثقافي والتراثي ومكتسباتها الزاخرة الممتدة من سماحة الشريعة الى لآلئ التراث وكنوزه. وحسناً فعل النشط عبدالمحسن التويجري نائب وزير الحرس الوطني، والذي ارتهن للشفافية والشجاعة والصراحة عندما طالب الأصوات التي تحرم الحضور إلى الجنادرية بأن عليهم أن يراجعوا أنفسهم، مشيرا إلى أن "المهرجان لم ينطلق من فراغ، ويحمل في طياته مضامين عميقة عن تراث وثقافة وأصالة المملكة". بل وكان عقلانيا ومنصفا عندما طالبهم بالبحث والمجيء والتبصر قبل إطلاق الاحكام والفتاوى. طبعا من المعلوم ان كل مشروع فكري لا بد وانه يسعى للارتقاء بالمجتمع علما ووعيا وإدراكا وذائقة. والحقيقة ان الجنادرية تترجم تلك الرؤية على الأرض فلم يعد جديدا القول الذي تراكم عبر سنوات عدة في ان المهرجان يحترم عقل الانسان ويضع التاريخ في المكان الذي يليق به، فميزته المزاوجة بين المتناقضات ليجعل للمتلقي حرية القرار في نهاية المطاف، ما يعني انه يتفاعل مع نبض الحدث ويفتح الباب للعصف الذهني جالبا كل الاطياف والاصوات والرؤى دون تحيز لهذا الطرف او ذاك. ومع ذلك ففي كل المجتمعات هناك شريحة تقف ضد العمل الناجح لأسباب متعددة ليست بالضرورة اجتماعية او دينية او ثقافية بقدر ما ان هدفها هو إعاقة هذا المشروع او ذاك لأنه فقط يتعارض مع مصلحتها او اجندتها. وسبق ان اشرت لهذه الشريحة من قبل في مواقف ممانعة مشابهة الا ان المثير هو ان الممارسات هي ذاتها كونها استفزازية واندفاعية وخارج نطاق المنطق ما يجعلها تتنافى مع النسق المجتمعي العام وتصطدم مع فطرته، ولذا فهي بمثابة محاولة لإثارة الغبار والبلبلة وتشويه المنجز الحضاري رغم المكاسب الكبيرة التي حققها للدين والدولة والمجتمع. على أن هناك من يرى أن استمرار ظهور تلك التصرفات من وقت لآخر هو بسبب كثافة ثقافة الممانعة التي تعني الجمود والسكون، والتمسك بالمألوف، والخشية من الجديد بل ورفضه. هذه الثقافة شكلت نمطا من وعي التخلف في عمقها وفي تركيبتها من بعض المفاهيم والتقاليد والتصورات والممارسات، ما ساهم في صناعة قناعات سلبية تنتمي لدائرة التخلف، ولعل أحد أهم صوره تتمثل في الأحكام الجزافية، والتركيز على القشور وصغائر الامور ناهيك عن غياب الرؤية العقلانية. ولكي نمضي الى مزيد من الشفافية نقول إن بطء دورة التغيير في المجتمع تنعكس بطبيعة الحال على قدرة نموه وتطوره وعيا وثقافة، وان كان هناك افراد يدفعهم مستواهم الفكري باستشعار ضرورة التغيير الا انهم يرفضون ذلك ويتمسكون بقناعاتهم على الاقل علنا لان قبولهم بفكرة التغيير قد يعني ربما فقدان او ضياع مصالح او مكانة او نفوذ، ولذا فهذه الفئة تمارس دورا رافضا ومحبطا في دفع مسار تطور المجتمع. هذه الممارسات تعيد بنا الذاكرة الى بعض التصرفات التي قامت بها فئة رافضة ومعطلة للتغيير معينة في أكثر من مكان حكومي بدعوى تقديم اعتراض على قرارات للدولة سبق ان أعلنتها، وهو سلوك مستنكر ومرفوض شرعا وقانونا بدليل انها انطلقت من قناعات ومفاهيم مجتمعية في المقام الاول لا علاقة لها لا بالشرع ولا المناصحة وإن حاولوا الادعاء بذلك، فالمسألة هنا ليست انعكاسا لمطالبات شعبية بقدر ما هي محاولات رافضة لقرارات تنموية وحضارية ما يعني مساسا بهيبة الدولة واستقرار المجتمع. غير ان المهم ان المسألة هنا لا تتعلق بالشرع او بالنصوص الدينية وإنما حالة من الاشتباك والتداخل ما بين النص والعادة كرستها ثلة من المتشددين الذين يجدون صعوبة في فك هذا الاشتباك المتخيل في الذهن. ولذلك فغياب الوعي هو بالتأكيد أزمة الازمات، لأنه طالما ان الذهنية لازالت تلامس القشور، ولا يثير اهتمامها إلا الشكليات دون المضمون، فان إعاقة نمو المجتمع ستبقى مهيمنة بأدواتها داخل نسيج المجتمع. صفوة القول: الجنادرية أصبحت بشهادة المراقبين مشروعا تنويريا تراثيا انسانيا، وهي قادرة على تجاوز ما يعيقها من اقوال منافية لنبل أهدافها ومناقضة لدورها بدليل انها تحمل في مكوناتها احترام ثوابت الدين والدولة وفضاءات الفكر والثقافة والمعرفة، وعبق التاريخ واصالة وامجاد وطن!