كنت كتبت عن الأغنية وكيف فتحت الطبيعة لها الأبواب، فمن موسيقى الطبيعة اكتشف الإنسان الجمال للصوت الذي دغدغ وجدانه.. ومنه تطور لعلم الصوتيات. في ثقافات الشعوب الألحان جزء أساسي من كيانها، إذا كانت الموسيقى لغة عالمية لأن الطبيعة لغة عالمية تحسها شعوب الأرض، محتمل ذلك ولكن الطبيعة ليست متماثلة في كل أصقاع العالم لذا جاءت ألحان الصحاري تختلف وأغانيها ومن ثم كلمات شعرها كثيراً، فيما تشابهت بعض الشيء موسيقى إيقاعات الطبيعة الخضراء هادئة الهواء وتقلبات الجو تكاد تكون بسيطة لمواسم وتنتهي، في حين طبيعة بعض البلدان التي تتمثل بالبراكين والزلازل تكون صوت طبولها قوية نوعاً ماً، خاصة إذا كان من خلال ذلك طرد ما قد يسمى الأرواح الشريرة. هنا يجدر بي أن أشكر أحد متابعيّ الذي نبهني لهذه الجزئية، حيث يكون في بعض الموسيقى والأناشيد أحياناً نوع من الروحانية إذا كانت الموسيقى عبر الطبيعة أخذها البشر وطورها فهو طور من خلالها العلم المتعلق بها بشكل عام.. ومن ذلك أيضا علم اللغة، ولكل أمة لغتها التي تفتخر بها وهي مادة غنائها وشعرها، حديثها وعلومها وسجل لحضاراتها ومن ثم مختلف آدابها.. اللغة هي الأم التي تجمع ناطقيها، ومن خلالها تتحد الفنون، وخاصة المأثورات والقص الشعبي.. وهذا قد يوازي الآثار التي تحدث الأجيال عما صنعه الأجداد فإذا كانت الدول تعتني بلغتها وتهتم بتوالد عباراتها وكلماتها، فهي تهتم بالآثار وتحافظ عليها وتمنع الآيادي من العبث بها، وخاصة الآثار المقدسة، والتي يقوم عادة أغنياء الأمة والمؤمنون برعايتها والتفنن في زخرفتها بل عمل أوقاف لها عبر نواحي العالم أجمع. اللغة هي أصل به تبدأ ثقافات الأمم، وبه تنتهي، فتعبر عن علومها وفنونها من خلالها. مما أذكره قصة جميلة جداً ل(عزيز نسين) الكاتب التركي الساخر بوجع، تلك القصة اسمها(آه منا نحن معشر الحمير). فعبر حديث حمار عن فقد الحمير للغتهم يذكرنا ذلك بالكاتب ابن المقفع، وكتابه كليلة ودمنة . القصة تقول إنه كان للحمير لغة جميلة غير لغة النهيق التي نعرفها الآن، لكن جدهم الأكبر كان يرعى العشب سعيداً في غابة، حتى شعر أن ذئباً يراقبه، شك فكذب شكه، لكن الذئب قرب أكثر وأكثر ورآه فكذب عينيه، سعيد بطعم العشب الريان.. حتى أحس أن الذئب يداعب ذيله، وكذب الأمر، ولكن الذئب قفز وقد تمكن من خلفه، فزعق الحمار الجد، وصاح (عا..عا)، ومنذ ذلك اليوم والحمير بلا لغة غير النهيق.. وما دخل الأغنية التي قدمت عنها في المقال السابق، بالقصة، وها أنا أعيد الكرّة اليوم، الرابط بينهما، هو تغير طعم وشكل الأغنية المبثوثة للأجيال الجديدة، وهي تحمل لغة غريبة ولحناً أغرب لن يكون بعيداً عن لغة ذاك الجد بعد أن عضه الذئب، في قصة عزيز نسين. هناك أشياء كثيرة في الثقافة الشعبية تحتاج لرفع الغبار عنها ورفع قيمتها ليست الأغنية وحدها ولن تكون الملبوسات الشعبية آخرها، والتراث المادي الذي يحتاج لعناية خاصة من صيانة ومحافظة على شكله الأساسي ونقوشه.. وقبل كل ذلك العودة للعناية باللغة وتوالدها واستطرادات معانيها.. حتى لا نفقد لحننا وصوتنا اللذين يميزاننا.