خادم الحرمين الشريفين فحوصات طبية في العيادات الملكية في قصر السلام بجدة    وزير الصحة الماليزي: نراقب عن كثب وضع جائحة كورونا في سنغافورة    مستشفى دله النخيل ينهي معاناة عشريني يعاني من خلع متكرر للكتف وكسر معقد في المفصل الأخرمي الترقوي    رياح مثيرة للأتربة والغبار على أجزاء من الشرقية والرياض    موسيماني: ما زالت لدينا فرصة للبقاء في "روشن"    بيريرا: التعاون فريق منظم ويملك لاعبين لديهم جودة    وادي "الفطيحة" أجواء الطبيعة الخلابة بجازان    شهداء ومصابون في قصف لقوات الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة    الأوكراني أوزيك يتوج بطلاً للعالم للوزن الثقيل بلا منازع في الرياض    ولي العهد يستقبل مستشار الأمن القومي الأمريكي    رفضت بيع كليتها لشراء زوجها دراجة.. فطلقها !    خبير سيبراني: تفعيل الدفاع الإلكتروني المتقدم يقي من مخاطر الهجوم    «هيئة العقار»: 18 تشريعاً لمستقبل العقار وتحقيق مستهدفات الرؤية    مقتل 3 فلسطينيين على الأقل في غارة جوية إسرائيلية على رفح    لقب الدوري الإنجليزي بين أفضلية السيتي وحلم أرسنال    صقور السلة الزرقاء يتوجون بالذهب    السفارة السعودية في تشيلي تنظم حلقات نقاش بعنوان "تمكين المرأة السعودية في ظل رؤية المملكة 2030"    خادم الحرمين يأمر بترقية 26 قاضيًا بديوان المظالم    تنظيم جديد لتخصيص الطاقة للمستهلكين    طبخ ومسرح    مواقف مشرّفة    سمو ولي العهد يستقبل الأمراء والمواطنين    «تيك توك» تزيد مدة الفيديو لساعة كاملة    330 شاحنة إغاثية إلى اليمن وبيوت متنقلة للاجئين السوريين    اشتباك بالأيدي يُفشل انتخاب رئيس البرلمان العراقي    البرق يضيء سماء الباحة ويرسم لوحات بديعة    الماء (2)    جدول الضرب    «التعليم»: حسم 15 درجة من «المتحرشين» و«المبتزين» وإحالتهم للجهات الأمنية    قرى «حجن» تعيش العزلة وتعاني ضعف الخدمات    المقبل رفع الشكر للقيادة.. المملكة رئيساً للمجلس التنفيذي ل "الألكسو"    27 جائزة للمنتخب السعودي للعلوم والهندسة في آيسف    انطلاق المؤتمر الأول للتميز في التمريض الثلاثاء    «باب القصر»    اطلع على مشاريع التطوير لراحة الحجاج.. نائب أمير منطقة مكة المكرمة يتفقد المشاعر المقدسة    عبر التكنولوجيا المعززة بالذكاء الاصطناعي.. نقل إجراءات مبادرة طريق مكة إلى عالم الرقمية    للسنة الثانية.. "مبادرة طريق مكة" في مطار إسطنبول الدولي تواصل تقديم الخدمات بتقنيات حديثة    زيارات الخير    محتالة تحصل على إعانات بآلاف الدولارات    تحدي البطاطس الحارة يقتل طفلاً أمريكياً    دعاهم إلى تناول السوائل وفقاً لنصائح الطبيب.. استشاري: على مرض الكلى تجنّب أشعة الشمس في الحج    مختصون ينصحون الحجاج.. الكمامة حماية من الأمراض وحفاظ على الصحة    الهلال يحبط النصر..    الخبز على طاولة باخ وجياني    أهمية إنشاء الهيئة السعودية للمياه !    أمير عسير يُعزّي أسرة «آل مصعفق»    كيلا يبقى تركي السديري مجرد ذكرى    وزير التعليم: تفوّق طلابنا في «آيسف 2024» يؤسس لمرحلة مستقبلية عنوانها التميّز    كيان عدواني غاصب .. فرضه الاستعمار !    الرئاسة العامة تستكمل جاهزيتها لخدمة حجاج بيت الله الحرام هذا العام ١٤٤٥ه    المملكة رئيسا للمجلس التنفيذي للألكسو حتى 2026    "إرشاد الحافلات" يعلن جاهزية الخطط التشغيلية لموسم الحج    البحث العلمي والإبتكار بالملتقى العلمي السنوي بجامعة عبدالرحمن بن فيصل    قائد فذٌ و وطن عظيم    رئيس جمهورية موريتانيا يغادر جدة    بتوجيه الملك.. ولي العهد يزور «الشرقية».. قوة وتلاحم وحرص على التطوير والتنمية    «الأحوال»: قرار وزاري بفقدان امرأة «لبنانية الأصل» للجنسية السعودية    جامعة الملك خالد تدفع 11 ألف خريج لسوق العمل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تاريخ الإعلان..الشعر وثّق البدايات و«التقنية» صنعت الفارق
المنافسة اليوم بلغت الذروة في الصحف والقنوات الفضائية ولوحات الشوارع والرسائل القصيرة
نشر في الرياض يوم 15 - 11 - 2012

ظل الإعلان بما يعنيه من رسائله وتعدد أغراضه وتنوّع أساليبه جزءاً من تاريخ المجتمعات قديماً وحديثاً؛ إذ تذكر الروايات أن أول إعلان سجلته كتب التاريخ، هو ذلك الإعلان المصري الذي سُجل على قطعة من ورق البريد، ويرجع تاريخه إلى ألف عام قبل الميلاد كتبه أمير مصري يعلن عن فقدانه أحد مماليكه، ويعطي لمن وجده مكافأة مجزية.
كما ذكر بعض المؤرخين أن الأحافير التي وجدت في مدينة "بومي" بإيطاليا احتوت على إعلانات مكتوبة، أما أول إعلان نُشر في الصحف فيقال إنه الإعلان الذي نشر في إحدى الجرائد عن صدور إحدى الكتب عام 1625م، وكان استخدام كلمة إعلان قد بدأ متداولاً منذ عام 1655م؛ لأنها قبل ذلك كانت تُعرف باسم النصائح، وقد أخذت شكلاً ومنحنى تجارياً وأكثر مهنية مع ظهور الطباعة واكتشافها على يد "جوتنبرغ"؛ رغم أن الكوريين يرون أنهم أول من عرف الطباعة، إلاّ أن الطبيب المسلم "أبو القاسم الزهراوي" هو أول من وضع قوالب الحروف وطبعها على علب الأدوية؛ لكن يظل "جوتنبرغ" هو مؤسس الطباعة الحديثة التي أدت إلى انتشار الصحف في أوروبا ثم العالم العربي، حيث ظهر أول إعلان في الصحيفة التي اصدرتها الحملة الفرنسية في مصر عام 1798م، ثم صحيفة (القطائع) التي أسسها "محمد علي باشا" عام 1831م وكذا كان الوضع مع الصحف اللبنانية ومن بعدها العراقية -التي بدأتها صحيفة البلاد في الثلاثينيات من القرن الميلادي المنصرم-، كما لا يزال المؤرخ العراقي يذكر إعلانات صحيفة الزوراء التي بدأت صدورها عام 1869م، كما يذكر إعلان احدى الصحف في 13 أيلول عام 1920م، حيث جاء نص الإعلان بهذه الصياغة "طبيب العيون مارني الحائز على ثلاثة نياشين من الملوك.. مستعد لتصليح العين الحولاء والجفن لا يشنكص أبداً"، ويقال أن أمير الشعراء "أحمد شوقي" نزل في لبنان بمحل حلويات شهير واستطاب أكلة؛ فكتب بيتين من الشعر يثني فيها على جودة الحلويات التي يقدمها هذا المحل الذي مازال حتى يومنا هذا يطرز أبيات "شوقي"، ويغلف بها أجود أنواع الحلويات لديه، كما لازالت فروعه في المملكة تبيع ذات الحلوى التي استطابها أمير الشعراء.
مواقف تاريخية
ولأن الإعلان فكرة قبل أن يكون وسيلة للتسويق؛ فقد سعت إحدى شركات المشروبات إلى تصنيع مشروب خاص لرواد الفضاء -الذين علمت الشركة أن الأطباء والخبراء ألزموهم بمواصفات معينة للسوائل التي يشربونها-؛ مادعا هذه الشركة أن تسارع بتصنيع هذا المنتج الخاص، حيث مثّل أكبر إعلان لها، وتحديداً بعد أن أخذ الرواد يتناولونه أمام عدسات التصوير في الفضاء الخارجي.
ولأن البعض يخلط بين الدعاية والإعلان فقد شاع بين الناس قديما أن الإعلان في الغالب هو محاولة لتحسين صورة المنتج السيئ، ولذا كان رؤساء تحرير الصحف يتحاشون نشر الإعلانات التسويقية في بداية صدور الصحف لانعدام ثقة القارئ بالإعلان، إلاّ أن الإعلان الإخباري، والمقصود به الإعلان عن القرارات والأنظمة الحكومية، وكذلك الحملات التوعوية والصحية، أو الإعلان عن أخبار ذات أهمية عامة، أو إعلان الأهالي عن مفقوداتهم أو عرض خدماتهم، وهذا النوع من الإعلان -وهو بطبيعته يختلف عن الإعلان التجاري- كان محل اهتمام من الجميع، ومثال ذلك إعلانات "نابليون" عن حملات التطعيم أثناء الحملة الفرنسية على مصر، بل لقد ذكر "المسعودي" في (مروج الذهب) إعلاناً مثل هذا، حيث قال: شاهد مؤذن جامع بغداد في عهد الخليفة المعتضد بالله "القرن الثالث الهجري" رجلاً أجنبياً يحاول الاعتداء على امرأة وهي في طريقها لمنزلها، ولأن الوقت كان متأخراً وكانت الطرق خالية لم يجد المؤذن حيلة لدفع شر هذا الرجل إلاّ أن صعد منارة الجامع وبدأ يؤذن، وتعجب الخليفة من الأذان في وقت متأخر من الليل، وأمر رجاله بتقصي الأمر، ولما سألوا المؤذن وعرفوا القصة قبضوا على الرجل وقدموه للخليفة الذي شكر المؤذن، وقال له إذا رأيت مثل هذا الأمر فاعمد إلى الإعلان عنه بالأذان خارج وقت الصلاة، فكان المؤذن إذا رأى تجاوزات العامة وتلاعب التجار بالأسعار هددهم بذلك.
إعلان الشعراء
قل للمليحة في الخمار الأسود
ماذا فعلتِ بناسك متعبدِ
قد كان شمّر للصلاة ثيابه
حتى وقفت له بباب المسجدِ
ردي عليه صلاته وصيامه
لا تقتليهِ برب دين محمدِ
ما زال البعض يرى أن هذه الأبيات للشاعر "ربيعة بن عامر" -الذي عاصر بداية العهد الأموي- هي أول إعلان تجاري من نوعه، لا سيما وأنها قيلت بعد أن شاهد "ربيعة" كساد بضاعة أحد تجار البصرة -الذي استورد بضاعة من الخمار الأسود وكانت "موضة" النساء في تلك الفترة لبس الخمار الأبيض-، فقال "ربيعة" هذه الأبيات؛ فتسابقت نساء البصرة على العودة إلى الخمار الأسود، وبذلك روّج "ربيعة بن عامر" بضاعة صاحبه وأنهى أزمته التسويقية.
لم تكن أبيات الشاعر "ربيعة" باكورة العمل الإعلامي في أدبنا العربي، كما لم تكن قصته مع التاجر العراقي أول أسلوب إعلاني يصاغ لترويج سلعة أو فكرة ما، بل لقد زخر الأدب الجاهلي والعصور التي سبقته بصور مماثلة وممارسات إعلانية متنوعة ومتباينة حتى في عصور الأقوام البائدة، ولعل أساليب الفخر والمدح التي كان ينتهجها بعض شعراء العصور المنصرمة كانت وما زالت تصنّف ضمن أساليب الإعلان الحديث، ولعل ضرب أمثلة من باب الاستدلال لا الحصر يصور لنا كيف كان العرب الأوائل شغوفين بحبك الصورة الإعلانية مع تعدد أغراضها وتنوع أساليبها، ناهيك عن استخدام أساليب الدعاية والحرب النفسية لا سيما عند اقتراب مواعيد الحروب والمعارك.
«المتنبي» وسيلة السلاطين و«أبو نواس» شوه سمعة الجارية و«ربيعة» أعاد مليحة الخمار الأسود و«شوقي» امتدح الحلويات
ولعل أفضل مثال لإعلان تسويقي ما رواه الأساطين في أدبنا العربي من أن رجلاً كان يُدعى "المحلق بن حنتم"، وكان فقيراً معدماً ولم يرزق بولد ذكر من بين زهاء سبع بنات لم يكتب لهن الزواج، بل لم يتقدم لهن أحد حتى خشيت والدتهن عليهن العنوسة وكانت امرأة فطنة عاقلة، فلما كان أحد مواسم سوق عكاظ نصحت زوجها بأن يستبق القوم إلى استضافة الشاعر الكبير أبي بصير الأعشى "ميمون بن قيس"؛ فبادر إلى قيادة ناقته من خطامها ونحر له ناقة كانت لديه، فلما تعشى الأعشى بدأ يسأل عن حال مضيفه فأدرك بحس الشاعر أن "المحلق" كان من أشد الناس فقراً، فأثر ذلك في نفس "الأعشى" تأثيراً شديداً، فكتب قصيدته القافية الشهيرة والتي مطلعها:
أرقت وما هذا السهاد المؤرق
وما بي من سقم وما بي معشق
لعمري لقد لاحت عيون كثيرة
إلى ضوء نار في يفاع تحرق
تشب لمقرورين يصطليانها
وبات على النار الندى والمحلق
وهي قصيدة طويلة انتشرت في سوق عكاظ، فلم يمس "المحلق" إلاّ وقد تزوجت كل بناته، واغتنى ذائع الصيت، بعد أن كان خاملاً مغموراً.
موقف المتنبي
لقد أدرك ملوك القرن الرابع الهجري أن فيلسوف الشعر العربي "أبو الطيب المتنبي" هو أحدث، بل أقوى الأدوات الإعلانية في زمانهم؛ حتى تسابق عليه الملوك وخطب وده الخلفاء والأمراء والوزراء كل يريد من هذا الشاعر أن يطأ بلاطه وينزل بباحته.
لقد كان "المتنبي" وسيلة مباهاة بين هؤلاء الملوك حتى أنه أدرك هذه القيمة فأقسم ألا يمدح أحداً ما لم يكن ملكاً أو سلطاناً أو زعيماً؛ مما أوقعه في حرج مع بعض الوزراء والقادة، وعليه يكاد البعض يجزم أنه لولا "المتنبي" لما عُرف "سيف الدولة" أو "كافور" أو "عضد الدولة"، وحق لهم هذا ف"سيف الدولة" ما كان أفضل مكانة من أخيه وبعض بني عمه، ولكنه اشتهر، بل عرف الناس تاريخه وغزواته ومعاركه بسبب ما حفظ من أشعاره وقصائده، كما لم يكن "كافور" أفضل ولا أشجع ولا أحق بالعرش من صاحبه "محمد بن طغج الأخشيدي"، ولكنها أشعار وقصائد "المتنبي" التي كانت إعلاناً لسلطان وبلاط "كافور الأخشيدي"، لا سيما وقد طلبه "كافور" عدة مرات، ولكن "المتنبي" لم يستجب له، إلاّ بعد عتابه على "سيف الدولة" الذي مكث في بلاطه أكثر من تسع سنين حينها جاء ل"كافور" وهو يقول:
قواصد كافور توارك غيره
ومن قصد البحر استقل السواقيا
واستمر ملوك القرن الرابع الهجري يخطبون ود أكبر وسيلة إعلان في ذلك العصر، لاسيما وهم يرون أن هذه الوسيلة قادرة على أن تعكس لعامة الناس مدى النفوذ الذي ينعمون به، حتى طلبه الوزير العباسي في بغداد "المهلبي" ولم يأبه له "المتنبي"؛ فحرّض الوزير شعراء العراق عليه إلى أن نزل "المتنبي" ببلاط "عضد الدولة" فرسم اسمه على صفحات الأدب العربي بعد أن كان مصيره كمصير والده وإخوته الذين يندر أن تجد أسماءهم إلاّ في كتب التاريخ.
كان نزول الشاعر "أبي نواس" في بلاط "ابن الخصيب" في مصر إعلاناً لما كان عليه هذا الوالي من مكانة اجتماعية وسياسية، لا سيما حين قال فيه:
إذا لم تزر أرض الخصيب ركابنا
فأي فتى بعد الخصيب تزور
فتىً يشتري حسن الثناء بماله
ويعلم أن الدائرات تدور
فما جازه جودٌ ولاحل دونه
ولكن يصير الجود حيث يصير
حينها غضب الولاة في الأصقاع والولايات وغاروا من "ابن الخصيب"، بل لقد غضب الخليفة في بغداد وأمر بإحضار "أبي نواس"؛ حين عاد إلى العراق واستدعاه ليسأله عما قاله في "ابن الخصيب" وعاتبه، قائلاً: ماذا أبقيت لنا يا ابن هانئ؟، فقدم له "أبو نواس" إعلاناً قوياً قال فيه:
إذا نحن أثنينا عليك بصالح
فأنت كما نثني وفوق الذي نثني
وإن جرت الألفاظ يوماً بمدحةٍ
لغيرك إنساناً فأنت الذي نعني
سوق النخاسين!
كان لأحد تجار بغداد، ويسمى "النطافي" جارية اسمها "بنان" عُرفت بجمالها؛ حتى أن تجار سوق النخاسة ظلوا يساومون "النطافي" في بيعها فرفض، لا سيما حين نما إلى مسامعه أن الخليفة "هارون الرشيد" يرغب في شرائها، وما أن علم بذلك "أبو نواس" الذي كان هائماً في عشق هذه الجارية إلا وراح يهجوها بقصيدة شنيعة افترى فيها على هذه الجارية المسكينة، وما أن ذاعت أبيات "أبي نواس" في شوارع بغداد، إلاّ وهبط سعر الجارية إلى أدنى مستوى وزهد فيها التجار وصعب الأمر على الخليفة فهو لا يستطيع شراءها بعد أن وصفها "أبي نواس"، بل وصف من يشتريها بأقذع الأوصاف، وهي التي كانت آية من آيات الحسن والجمال، بل قيل إنها رضخت لعملية فحص من قبل بعض النساء قبل بيعها؛ فما وجدن فيها عيباً إلاّ انحناء في خنصر إحدى أصابع قدميها لم لا؟ وقد قال فيها أبي نواس نفسه:
أموت ولا تدري وأنت قتلتني
ولو كنت تدري كنت لا شك ترحم
أهابك أن أشكو إليك صبابتي
فلا أنا أبديها ولا أنت تعلم
لساني وقلبي يكتمان هواكم
ولكن دمعي بالهوى يتكلم
وإن لم يبح دمعي بمكنون حبكم
تكلّم جسمي بالنحول يترجم
لم يعلم "أبي نواس" الذي اسقط أسهم هذه الجارية أنه بعد أكثر من ألف عام سيأتي أحد باعة "بالونات الأطفال" في عصرنا هذا؛ ليعلن عن بضاعته الزهيدة عبر أبياتٍ لأبي نواس نفسه قالها يصف ما وجده من حر الهوى ولهيب الشوق، وقد وظّف كلمة "الهوى" لبضاعته وراح يردد ما قاله أبو نواس:
حامل الهوى تعب
يستخفه الطرب
إن بكى يحق له
ليس مابه لعب
تعجبين من سقمي
صحتي هي العجب
بداية الإعلان في المملكة
أما الإعلان في بلادنا فقد بدأ كما بدأ غيره في العصور الأولى على ألسنة الشعراء الذين راح أحدهم يصف سلعته أو يثني على ناقته، أو يصور لك إحدى الأسواق التي نزلها، ورحم الله "ابن ريفة" حين وصف بندقيته قائلاً:
لي بندق ما صنعها الصانع التالي
من دقة "المارت" نحال مقاضبها
شريتها بالثمن يوم أرخص المالي
إِمية وعشرين ما يمهل بغيابها
الله يرحمك يا عودٍ شراها لي
من واحد جابها للسوق جالبها
ويالله أنا طالبك حمرا هوى بالي
لا روح الجيش طفّاح جنايبها
أما في مجال الإعلان الإذاعي فمن منا لا يذكر (إذاعة طامي)، وكيف كان صاحبها "رحمه الله" يعلن لمستمعيه عن المفقودات التي فقدها الأهالي وطلبوا منه الإعلان عنها، أما الإعلان المكتوب فقد عُرف مع بداية انتشار الصحف في بلادنا، ولأنها البدايات فقد كان الإعلان ينشر بدون ألوان كما هي الصور الأخرى، وكانت لغة الإعلان بسيطة ومباشرة تفتقد إلى الرمزية التي هي الآن فن من فنون صياغة الإعلان لها مدارسها واتجاهاتها.
إعلانات التلفزيون: «بنتليز جودة الشاي وأنت الحكم»، «فتيحي.. يحطم الأسعار تحطيماً»، «ساديا لديها ذلك»، «علشاني اشرب شاني»، «نيسان على كل لسان»
ونجاح الإعلان مرهون في كثير من الأوقات بنجاح وصول رسالته الرمزية، ولم تكن اللغة المباشرة في الإعلان دليل لبداياته، بل اتصفت بعض الإعلانات حينها بمساحة واسعة من المادة التحريرية كما كانت الصورة جامدة إلى حد ما، ناهيك عن استخدام بعض المفردات والكلمات العامية في كتابة الإعلان، وخذ لذلك مثالاً؛ فقد كان إعلان إحدى السيارات ذات الدفع الرباعي مذيلاً بعبارة "لن تشعر معناً بالمطبات والمطانيج"، كما عبّرت إحدى الوكالات عن سياراتها الجديدة بأنها "فتانة وانسيابية"، وكان إعلان الخطوط السعودية في موسم الحج مباشراً ومعنون بعبارة "حجّوا إلى بيت الله الحرام"، وبخط أصغر كتب "على طائرات داكوتا وبريستول"، كما ظهر إعلان إحدى السيارات بهذه العبارة "جميلة وكبيرة".
ومع بداية الثمانينات الميلادية ظهر السجع كأحد الأساليب الحديثة في الصياغة التحريرية للإعلان، فمن منّا لا يذكر عبارة "حتى تصبح متعافي اشرب حليب الصافي"، و"نيسان على كل لسان"، و"علشاني اشرب شاني"، ثم بدأت الأفكار الإبداعية والرموز الإيحائية تغزو الإعلان؛ فهذا يعلن عن "فلافل وطعمية" ويكتب "طع 100، ويضع في محلاته كتب العلامة "الباقلاني" -رحمه الله- المنسوب لمهنته وهي الفول الذي كان يسميه العرب "الباقلاء"، كما ظهرت الإعلانات الملونة في المجلات قبل الصحف.
أما في التلفاز فقد مرّ المجتمع بطفرة إعلانية صاخبة منذ منتصف عام 1406ه، حيث وافق التلفزيون السعودي على نشر الإعلان التجاري الذي وجد متابعة منقطعة النظير، بل إن الرسالة الإعلانية كانت تصل إلى أقصى مدى في التأثير على المتلقين الذين كانوا يتحلقون أمام جهاز "التلفزيون" بعد نشره الأخبار الرئيسة؛ لا لشيء سوى لمشاهدة فترة الإعلان التجاري الذي ردد أهازيجه الصغار في الشوارع، وترنم بأناشيده الكبار في مدارسهم وتسارع "الشيبان" إلى الأسواق لشراء هذا المنتج الذي طاب لهم حديث أبنائهم عنه.
كان للإعلانات في التلفزيون السعودي حديث لا يمل، لا سيما في سنواته الأربع الأولى، وما يزال الشارع يذكر إعلان "ببسي ليمون.. أكيد بيرويك"، و"بنتليز جودة الشاي وأنت الحكم"، و"فيمتو.. طعم اللقاء"، و"فتيحي.. يحطم الأسعار تحطيماً"، و"ساديا لديها ذلك"، وهكذا.. إلاّ أن أول إعلان في التلفزيون مؤرخ لمركز فتيحي وزيت عافية ولبن المراعي، كما أنه قد سبق هذا كله أسلوب إعلاني فريد من نوعه ظهر في بداية الثمانينات الميلادية، حيث سبق ظهور الإعلان التلفزيوني حملة تسويقية لمنتج يحمل اسم "ارسي كولاً" تزامن ظهوره عام 1402ه مع حملة إعلانية تسويقية بمعناها الحديث، ووزعت الهدايا الخاصة بهذا المنتج على معظم المحلات ونقاط البيع، وكان السباق على ما تحمله قصاصة العلبة من أرقام، ومع زيادة الرقم تزيد قيمة الجائزة، ولا ينسى الصغار في ذلك الوقت لعبة "الصحن الدوار"، و "قلم الساعة"، و"كرة أرسي"؛ ناهيك عما تحمله بعض المنتجات من صور المشاهير أو صور المسلسلات الكرتونية للأطفال الصغار ك"جريندايز" و"عدنان ولينا" و"لولو الصغيرة"، كما كانت الميداليات وألعاب "شختك بختك" تحمل صور أشهر اللعيبة في نهاية السبعينيات، وبداية الثمانينيات الميلادية؛ أي ابان فترة الاحتراف الأجنبي في مرحلته الأولى.
الإعلان المعاصر
في زمننا الحالي تعددت الأساليب والسياسات الإعلانية بتعدد وسائل الاتصال الحديثة، بل إن المنافسة المحمومة في عالم الإعلان التجاري وصل إلى حد التخصص والإنفراد، حيث تنتشر الآن الصحف الإعلانية، وكذلك القنوات التلفزيونية المخصصة للإعلان التجاري، ناهيك عن الإعلانات التجارية على اللوحات الإلكترونية والشاشات العملاقة الموزعة على أكتاف الطرق وأمام إشارات المرور، كذلك الإعلانات في سيارات النقل العام، والرسائل عبر وسائل الاتصال الشخصي عن طريق رسائل ال(SMS)، ومواقع التواصل الاجتماعي وميادين الملاعب والمسابقات العالمية.
ولأن النشاط الإعلاني مرهون بالعمليات المالية والاقتصادية فإن سبل التحديث في أساليبه ومناهجه تظل مضطردة ومتسارعة؛ لا عجب معها من تلقي أحدنا رسالة إعلانية تأتيه من قاع الأرض وهو في رحلته في إحدى الطائرات محلق بين السماء والأرض لا يسعه حينها، إلاّ أن يتذكر بوق الوالي أو مدفع رمضان الذي كان مؤشراً لإعلان دخول وقت الإفطار.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.