كان الطريق من الفندق الى الجامع الكبير في قرطبة طريقا ضيقا تدهش عندما ترى سيارة صغيرة تعبر منه..حافظت بلدية قرطبة بل وحتى الحكومة الاسبانية والادارة المحلية على وضعية الطرق كما كانت في الماضي وقاومت بقوة وحتى استبسال محاولات عدة لهدم المنطقة التاريخية المحيطة بالجامع الكبير وتطويرها لتواكب العصر حسب رؤية البعض.. لكن اعتزاز مختلف ابناء اسبانيا بالآثار الاسلامية وحضارتها المتجددة عبر الايام جعلهم يحافظون على هذا الارث العظيم على الرغم من تحويل جزء من الجامع لكنيسة.. لا اخفي على القارىء العزيز انه خنقتني العبرة.. بل وانسابت دموعي صامتة وانا اشاهد عظمة الفن الاسلامي وأسماء الله الحسنى وهي تزين مختلف جوانب الجامع.. اعلى الاعمدة والاقواس وحتى المقرنصات..اضافة الى الآيات القرآنية الكريمة.. وعلى بعد خطوات منها بل وحتى الى جوارها محتويات الكنيسة المختلفة والايقونات والمجسمات. قرطبة تدافع عن تراثها وكنوزها الثقافية والدينية.. وتفاخر بالإنجاز العربي والإسلامي البناء والتعمير تطلب مني سائحة قادمة من اقصى الجنوب الامريكي ان التقط لها صورة بجوار إحدى روائع العمارة الاسلامية في الجامع الكبير كانت تحدثنى عن حجم دهشتها واعجابها وحتى انبهارها بما ابدعه بناة العمارة الاسلامية في هذه المدينة كانت تقول ذلك وانا أشعر اكثر منها دهشة وانبهارا واعجابا في وقت لم تتوفر فيه المعدات والتقنيات التي تساعد في عملية البناء والتعمير اضافة الى ماتوفره الحياة المعاصرة من فرص جلب العمالة المتخصصة في عمليات البناء والتشييد.. كنت اتجول داخل اروقة الجامع الكبير الذي يؤكد على عظمة الاسلام وتحديه لحادثات الايام وكيف حافظت هذه العمارة على جمالها وقوتها مئات السنين.. في وقت نجد فيه بعض المباني المعاصرة سرعان ماتقع ككومة من تراب. سيدة خليجية تصور داخل الجامع العمارة الاسلامية والحديث عن العمارة الاسلامية في الاندلس تقودنا حتما الى البدايات لتكوين الدولة الاسلامية هنا حيث اسس عبدالرحمن الداخل امارته عام 138ه في الاندلس واجزاء من شمال افريقيا وكانت العاصمة قرطبة.. نعم هذه المدينة التي انا فيها الان اتجول في ازقتها واشاهد ابداع العرب المسلمين القادمين من الشرق وحتى من شمال افريقيا خلال الفتح الاسلامي لهذه الارض الثرية بطبيعتها وجمالياتها وحتى بطيبة اهلها المتوارثة جيلا بعد جيل بجوار متحف المعروضات داخل الجامع الذي يضم بداخله المئات مما تركه المسلمون الاوائل في هذه المدينة , كانت المرشدة السياحية تتحدث باعتزاز عن المدينة التي اشتهرت منذ القدم بخاصية تميزت بها وهي الالفة بين العرب المسلمين والمسيحيين وبالتالي ازدهرت المدينة بنشاطات تجارية وثقافية وعمرانية ميزتها عن بقية مدن العالم في ذلك الوقت مما ساهم في الهجرة اليها لذلك. أعمدة وأقواس تعود إلى فن العمارة الاسلامية المكان المناسب ازدهرت قرطبه ثقافيا وتجاريا وحتى زراعيا ومن هنا تجد ملايين السياح يترددون عليها من مختلف دول العالم وبالتالي تزدحم فنادقها وشققها السكنية وموتيلاتها بهم ومن الضروري ان تحجز مسبقا حتى تجد لك مكانا مناسبا تقيم فيه.. والحق ان من مزايا هذه المدينة انك تجد العديد من فنادقها ومطاعمها داخل الازقة والطرق الضيقة خصوصا في مركز المدينة حول الجامع الكبير ومن الاشياء المثيرة للاعجاب انك تجد اشجار النخيل يعانق سعفها اشجار البرتقال والتي تنتشر في كل مكان من هذه المدينة ذات الطابع العربي والاسلامي ومن الجميل انك لن تشعر بحيرة في بحثك عن المأكولات العربية فهي موجودة خصوصا مأكولات شمال افريقيا من كباب وطاجن وحتى الشاي الاخضر. اسوار الجامع تآلف جميل وحسب ماتشير اليه كتب التاريخ كان المجتمع في الاندلس يعتبر مجتمعا من اجناس مختلفة فهناك العرب والبربر الذين شاركوا في الفتح الاسلامي او هاجروا من الشمال الافريقي وهناك من هم من ابناء الاندلس الاصليون من الاسبان الذين اسلموا اضافة الى الصقالبة واليهود ومن احفاد احفاد هؤلاء والمهاجرون الجدد من الدول العربية والاوربية والافريقية يتكون المجتمع القرطبي هذه الايام في تآلف جميل أشبه بلوحات الفسيفساء التي تزدهي بها العمارة الاسلامية في هذه المدينة التاريخ والاسلام والجمال.. ورغم مرور أكثر من الف عام على سقوط الخلافة الاسلامية ( الاموية ) في الاندلس الا أن آثارها تكاد تجدها في كل مكان وتكاد تسمع وأنت تسير في طرقهاالمرصوفة بالحجارة وقع خيول المسلمين وصهيلها تختلط مع انغام الموشحات ذلك الارث الموسيقي المدهش الذي يثير في نفوس مستمعيه الشجن والشعور بقيمة الابداع الموسيقي العربي. طرق داخلية حول الجامع الابداع الاندلسي بل وتكاد تسمع عزف زرياب المدهش ينساب الى سمعك ويعيدك الى الماضي العريق للابداع الاندلسي الذي مازال خالدا حتى اليوم بفضل العناية والاهتمام بموسيقاه فالاسبان وعلى الاخص اهل الاندلس غرناطة وقرطبة وطليطلة الخ..من مدن الاندلس يحبون سماع الموشحات والموسيقى العربية حتى رقصة الفلامنكو الاسبانية الشهيرة ماهي الا امتداد لايقاعات اندلسية قديمة.. لقد ترك المسلمون هنا اثارا لايمكن ان تتلاشى او تختفي لقد اختلطت بالجذور كما هو الحال في اشجار النخيل والحمضيات والاثار المختلفة وفي كل مكان بل هناك اسوار القصبات والقباب والحصون والقناطر المائية شامخة حتى اليوم تؤكد على ابداع الاسلام وعظمته .. سواح في الطريق الى الجامع الكبير الزخارف الاسلامية لقد نقل العرب الحضارة لهذه الارض وابدعوا في تجميل جوامعهم ومساجدهم وحصونهم وتزيينها بالرسوم والاشكال والزخارف الاسلامية التي تفخر بها الان اسبانيا بل العالم لما تتضمنه من فنون وابداع خالدين.. حتى فنون الطعام المتميزة نقلها العرب الى هذه الاراضي.. بأنواعها المختلفة وتوابلها المتميزة ونكهاتها اللذيذة.. فانت تجد بعد ذلك الاطعمة الاسبانية اكثر ثراء وتنوعا من الاطعمة الاوروبية الاخرى بفضل الموروث العربي والاسلامي.. فقبل وصول العرب والمسلمين الى الاندلس او شبه جزيرة ايبيريا فيما مضى كان يعتمد على انواع محدودة وفي الغالب كان اللحوم المشوية هي الطبق الرئيس في الموائد والمناسبات ولقد وثقت الافلام التاريخية جوانب عديدة من ذلك.. اما بعد الاسلام ورسالة الفتح فكان تأثير فنون وانواع الاطعمة العربية والاسلامية كبيرا جدا. المقام الاول لقد تأثر المطبخ في اسبانيا بثلاث ثقافات رئيسية من جماعات إسلامية : العرب العجم والأتراك. إن فتح العرب لشبه جزيرة ايبيريا اثر على تقاليد الطهي البسيطة التي تستند في المقام الأول على اللحوم والالبان والخضروات والفواكه على مر التاريخ ولكن بعد انتقال العرب ومن رافقهم من المسلمين العجم ( الفرس ) والاتراك جعل المطبخ في غرناطة وقرطبة وطليطلة بل وكافة المدن والبلدات الاخرى تتأثر بالمطبخ العربي والاسلامي حيث الإسلام وضع قواعد صارمة لكبح جماح النفس خصوصا في شهر رمضان . وبدأت الثقافة الاسلامية بالتأثير من ذلك الوقت فصاعدا، والثقافة الاسلامية كما هو معروف مزيج من عدة ثقافات متعددة ومنتشرة في جميع أنحاء المناطق الاسلامية ومنها الاندلس.. روعة المعمار اشتهرت قرطبة بالعديد من الآثار التي تجسد روعة المعمار وتعد شاهدا على الحضارة الإسلامية في ذاك الوقت. ويعد المسجد الجامع الذي اشرت اليه في بداية هذا التقرير أهم تحفة معمارية أنشئت في عهد عبد الرحمن الداخل. وهو يقع في الجهة المقابلة لقصر الإمارة. وقد بدأ في إنشائه عام 170ه / 786 م، وجلب إليه الأعمدة الفخمة والرخام المنقوش بالذهب واللازورد وبلغ ما أنفق عليه 100 ألف دينار ثم زاد خلفاؤه من بعده في هذا العمل حتى أصبح أعظم مساجد الأندلس... ولقد أتم هشام الأول ابن عبد الرحمن المعروف بالرضي بناء المسجد الجامع وأنشأ مساجد أخرى. وفي عهد عبد الرحمن الأوسط زاد في المسجد الجامع قدر بهوين كبيرين من ناحية القبلة ونقل المحراب إلى الجزء الجديد وأقام أعمدة أخرى وأقواسا فوق الأعمدة الأصلية فكانت الأقواس المزدوجة التي يعدها المعماريون من روائع العمارة الإسلامية وكان صحن المسجد مكشوفا يدور حوله سور وهو الآن ضمن الكنيسة داخل الجامع ويا اسلاماه.
