في الغربة، في أغلب الأوقات أكون وحدي. لكن الجلوس وحدي ليس غريبا على روحي. كلما كبر الإنسان في السن قلت رغبته في الشللية. اعتقد أن هذا يعود إلى جهازه العصبي. تدني قدرة الإنسان على تحمل الصخب يجعله يميل إلى التفرد والوحدة. ألاحظ أن الفرق بيني وبين أبنائي يكمن غالبه في الضجيج. أحببت الموسيقى ومازلت، ولكني لم أعد احتملها عالية. يضع أبنائي على آذانهم السماعات ومع ذلك يزعجني ضجيجها إذا جلست إلى جانبهم. ألاحظ أن الغربة لم تعد حكرا على الغرباء وحدهم. صار الناس كلهم أشبه بالغرباء. تركب في باص عام أو تجلس في مقهى من الصعب أن تتاح لك كلمة واحدة مع الجالس إلى جانبك. كل من جلس في الأماكن العامة غرس السماعات في أذنيه أو أخذ يقلب الجهاز الذي بين يديه، هكذا عزل نفسه على الفور. تلاحظه مرة يهز يديه ومرة يبتسم ومرة يتراقص على الخفيف. تصرفات أقرب إلى تصرفات مجانين شرق المرقب قبل أربعين سنة. يقول المثل إذا كنت في روما عليك أن تفعل ما يفعله الرومان. زايدت على الرومان فصار في جيبي جهازان لا جهاز واحد. الأول أندرويد (جلاكسي أس تو) عليه الخط المحلي والآخر آي فون عليه خط المملكة. كلفني الجهازان حوالي ستة آلاف ريال. يستاهلان أكثر. لو فقدت أيا منهما تحرولت. لا يمكن أن أتحرك بدونهما. من باب الهواجس والشعور بالامتنان أخرجت أحدهما وقررت أن أحيط بفوائده. هل يستحق ثلاثة آلاف ريال (تقريبا). بعد محاولات أحسست أن المصالح المتوفرة فيه لا تقدر بثمن. قررت أن اختبر علاقتي به خارج زماننا هذا. كم سعره في السبعينيات أو الثمانينيات مقابل الخدمات والتقنيات التي يمكن أن أجدها متفرقة في ذلك الزمن. وضعت قائمة. اكتشفت أنه يقدم عددا لا يحصى من الأجهزة والفعاليات والفوائد. آلة حاسبة (ساينتفك)، جهاز تسجيل، كاميرا، كاميرا فيديو، بوصلة، دفتر ملاحظات، منبه، ساعة، تلفزيون، فيديو، قواميس، جرائد، مجلات، كتب، تحويل عملات، خرائط. أوه نسيت أقول تلفون أيضا. لا يمكن حصر ما يقدمه لك هذا الجهاز. تحتاج إلى مجلدات لتحصي عدد البرمجيات وامكاناتها وتفريعاتها. سأخرج الإنترنت و الجي بي اس وقوقل ومشتقاته وغيرها من المُحدثات وأبقي في حساباتي ما كان متوفرا في ذلك الزمن. تصور أن تشتري تلفزيونا وراديو ومسجلا وكاميرا ثمانية ميجابكسل وفيديو وجهاز كمبيوتر وموسوعة مثل الموسوعة البريطانية وأطلس العالم وتشترك في كل الجرائد سعودية وعربية وأجنبية وتجمع أهم الكتب الصادرة في العالم ثم تضع كل هذا في بيتك. بأبسط حساب ستدفع ما لا يقل عن مائتي ألف ريال. أتذكر كمثال فقط، اشتريت أبل ماكنتوش بلص (أسود وابيض) في منتصف الثمانينيات بأربعة عشر ألف ريال. الجوال جهاز رائع يزيل عنك الإحساس بالغربة لكنه يكرس فيك حس الاغتراب، الشعور بالنفي من أي مكان وزمان تكون فيه.