ذات ليلة، وكانت ليلة مقمرة، وبعد عودتي من العمل، رجاني أولادي الصغار أن يكون عشاؤنا خارج البيت، وذلك من باب التغيير، حيث انني كثيراً ما أتأخر على أولادي في مثل هذه النزهات لكثرة ارتباطاتي بالتسجيل للإذاعة والتلفاز، وغير ذلك. فأجبتهم وخرجنا، وكان النسيم عليلاً، وسكون الليل يبعث في النفس راحة وطمأنينة وأملاً وتفاؤلاً، واستقر الأمر مع الأولاد أن تكون هذه النزهة، وهذه الجولة في حارتنا القديمة حيث كنا نسكن، وذلك لنعود بذكرياتنا إلى الوراء، حيث الأصالة، وعبق الماضي، انطلق الأولاد معي والسعادة تلمع في وجوههم. وصلنا إلى حارتنا القديمة، وإلى بيتنا القديم، وتأملنا في الحارات التي تحيط به، وكنت أحدثهم كيف كنا نعيش مع الوالد - يرحمه الله - ، ومع الوالدة أطال الله عمرها في طاعته، كنا نعيش عدة أسر في البيت، حيث كان معنا إخواني وأخواتي بأولادهم، نعيش في بيت واحد مساحته 120م2. وكان الوالد - رحمه الله - قد ربانا على الترابط فيما بيننا، وعلى حب الآخرين، والإحسان إليهم والمحافظة على حدود الشرع. وكنا نجلس مع جميع أفراد الأسرة على سُفرة واحدة مصنوعة من الخوص دائرية الشكل، نقعد حولها لتناول الطعام، حيث كان يوضع أمامنا صحفة الأرز، وما يصحبه من إدام، فنتحلق جميعاً حول السفرة نأكل، ثم نقوم شاكرين حامدين الله تعالى على نعمه. وكانت البركة تحفنا، وعناية الله تكلؤنا في جميع أمورنا الحياتية، حدثت أولادي عن جيراننا الطيبين وكيف كانت لقاءاتنا معهم في الأعياد والمناسبات، وكيف كان سكان الحارة جميعاً كالأسرة الواحدة. وكيف كانت مشاعرهم تجاه بعضهم البعض، وترابطهم وتكاتفهم في المحن والشدائد. في آخر الشارع الضيق أشرت لأولادي إلى موضع كان يشغله دكان صغير مساحته 3*3م2 كان صاحبه يبيع فيه فيما سبق أدوات كهربائية ولوازم سباكة، وكان المحل قديماً ولصغر حجمه لا يسع إلا شخصاً واحداً مع ما كان في المحل من بضائع قليلة لا تتجاوز عدد 5 - 10 مواسير مياه مع صندوق مواد سباكة، وعدد قليل من أفياش الكهرباء، وقليل من الليات، وبعض الأشياء القليلة الأخرى، ومع ذلك كان على المحل لوحة كبيرة ربما أكبر من حجم المحل نفسه، مكتوباً عليها (محلات أبو فلان للتجارة والاستيراد والتصدير) وتحتها بخط أصغر (استيراد - تصدير - قومسيون - تجارة عامة). ضحك الأولاد وأنا أحكي لهم هذا المشهد.. وتعجبوا من حياة البساطة التي كنا نعيشها في حارتنا القديمة. وتعجبوا من منظر الحارة بما طرأ عليها من تطور، وبنايات شاهقة جديدة تواكب العصر. وتمنى بعضهم أن يكون الناس جميعاً يعيشون معاً بتلك المشاعر التي صورتها لهم عن حارتنا القديمة وقفنا بأحد المطاعم فأخذنا عشاءنا وعدنا إلى المنزل، والأولاد متشوقون لسماع مزيد من الحكايات والذكريات عن حارتنا القديمة.