في الوقت الذي تؤدي فيه سياسة تقليص زراعة القمح إلى خفض الاستهلاك المائي السنوي في المملكة، فإن التوسع المتزايد في زراعة الزيتون الذي يحتاج مياها أكثر من القمح للهكتار، والتمدد التدريجي لزراعة البرسيم الذي يستهلك مياها للهكتار أضعاف ما يستهلكه كل من القمح والزيتون مجتمعين يؤدي إلى زيادة اجمالي الاستهلاك المائي سنوياً.. فكأننا كمن يسد تسريب الخزان من فتحة صغيرة ويثقبه فتحتين كبيرتين!! نظرة عامة شهدت سنة 1429ه بداية الأزمة الغذائية العالمية والتي كان من نتائجها انخفاض المعروض من السلع الزراعية الاستراتيجية وخصوصاً القمح والأرز في بورصات الغذاء العالمية مما أدى إلى ارتفاع أسعار تلك السلع ارتفاعاً كبيراً. والملاحظ أنه منذ بداية الأزمة الغذائية وحتى هذا اليوم وأسعار السلع الغذائية الاستراتيجية غير مستقرة وتتعرض لارتفاعات مفاجئة عند حدوث أي مؤثرات تطال القطاع الزراعي العالمي، وخصوصاً الظروف المناخية وما ينتج عنها من كوارث طبيعية.. ولعل ما حدث للقمح الروسي في خريف عام 2010م يؤكد وبوضوح تام بأن كمية الغذاء المعروضة للبيع في بورصات الغذاء العالمية محدودة وغير مستقرة وتوفرها يخضع لعوامل انتاجية ومناخية واقتصادية واجتماعية وسياسية متداخلة وتؤثر في بعضها البعض، والمتوقع أن السنوات القليلة القادمة سوف تشهد اضطرابات حقيقية فيما يتعلق بتوفر السلع الغذائية الاستراتيجية في الأسواق العالمية وخصوصاً القمح. وحيث ان عدد سكان هذه البلاد مرشح للوصول إلى ما يزيد على (35) مليون نسمة عام 2030م ما يتطلب العمل بجدية على جعل القطاع الزراعي المحلي يساهم وبصفة مستديمة بتأمين جزء من الاحتياجات الغذائية الأساسية وهذا يعني ضرورة استغلال المياه المخصصة للنشاط الزراعي المحلي لانتاج نسبة محددة من بعض المحاصيل الاستراتيجية ويأتي في مقدمتها القمح والعمل على جعل الاستثمار الزراعي الخارجي والاستيراد المباشر للمحاصيل الزراعية المتوفرة في السوق العالمي مكملاً للانتاج المحلي.. لتأمين السلع الزراعية الاستراتيجية بيسر وتجنب الاضطرابات المتوقعة مستقبلاً لتوفر هذه السلع في الأسواق العالمية. أهم التحديات التي تواجه القطاع الزراعي المحلي: تبلغ المساحة الاجمالية للمملكة 225 مليون هكتار، واستخدم منها للزراعة المروية في عام 2009م ما يقارب (850) ألف هكتار أو ما يعادل أقل من 0.4٪ من المساحة الاجمالية للمملكة وفقاً للاحصاءات الرسمية الصادرة عن وزارة الزراعة.. ويعتبر القطاع الزراعي وبمساحته المحدودة واعداً وله مساهمة ايجابية في تأمين بعض السلع الزراعية وفي الناتج الاجمالي المحلي إلا أنه يواجه العديد من التحديات والصعوبات لعل أهمها ما يلي: 1- ندرة الموارد الطبيعية المخصصة للانتاج الزراعي وخصوصاً المياه ويشمل ذلك قلة الأمطار التي تهطل على هذه البلاد ويمكن لها دعم زراعة مطرية منتجة، لذلك لابد من معرفة الاحتياطات المائية الموجودة في مناطق الزراعة المروية الرئيسية (الجوف - تبوك - حائل - القصيم - الخرج وحرض - وادي الدواسر) بالمملكة ليتم تحديد الموازنة الفصلية المائية للانتاج الزراعي في كل منطقة من هذه المناطق. 2- التطبيق الفعلي لمفهوم الزراعة المستدامة مصحوباً بالميز النسبية لانتاج المحاصيل الزراعية الاستراتيجية مازال في مراحله الأولى وينقصه التنفيذ المبني على الأسس العلمية السليمة القائم على الدراسات البيئية الدقيقة لواقع الموارد الزراعية والتدهور الذي تتعرض له حالياً وقدرتها على الانتاج الزراعي المستديم. 3- عدم نضج وتطور مؤسسات البحث العلمي الزراعي المحلي مما أدى إلى ضعف مساهمتها في انتاج واستنباط مدخلات زراعية تناسب الظروف المحلية وخصوصاً محاصيل تتحمل الجفاف والملوحة وكيماويات (أسمدة ومبيدات ومحسنات تربة) ملائمة للبيئة المحلية. وأرى أن الوقت قد حان لإنشاء هيئة مستقلة للبحوث الزراعية كما هو الحال في معظم الدول المجاورة مع ملاحظة ان البنية التحتية لمراكز الأبحاث التابعة لوزارة الزراعة وتوزيعها الجغرافي يؤهلها أن تكون نواة لهذه الهيئة إلا ان الأمر يتطلب تحسين ظروف العاملين بها (وضع كادر خاص بها) لكي تتمكن من استقطاب الكفاءات الزراعية الجيدة بالاضافة إلى زيادة مواردها المالية واعتماد نظام إداري ومالي مرن يكفل لها سرعة اتخاذ القرارات لتنفيذ خططها ومشاريعها البحثية وبالتالي المساهمة الفعلية في تحقيق الأمن المائي والأمن الغذائي. الواقع الزراعي الحالي: المتابع للقطاع الزراعي المحلي ونوعية النشاط الزراعي القائم في مناطق الزراعة المروية الرئيسية التي أشير إليها في بداية هذا المقال والتي تحصل على المياه المخصصة للأغراض الزراعية من التكوينات المائية الجيولوجية الموجودة في الصخور الرسوبية في تلك المناطق، يلاحظ أن العامل الرئيسي المحدد للزراعة بالمملكة وهو الماء لا يستغل وفقاً للسياسات الزراعية الرسمية لهذه البلاد القائمة على تحقيق الأمن المائي في المقام الأول، وسوف يتم استعراض محصولين زراعيين يتم انتاجهما بكثافة في الوقت الحالي وهما البرسيم والزيتون بالاضافة إلى محصول القمح الذي يتم حالياً الحد من انتاجه. 1- البرسيم: يعرف محصول البرسيم بأنه أحد أكثر المحاصيل الزراعية استهلاكاً للمياه والمراجع العلمية الخاصة بتقدير الاحتياجات المائية لهذا المحصول تشير إلى ذلك ولعل أحدثها ما تم نشره في عام 1431ه تحت عنوان: «دليل ارشادي لتقدير الاحتياجات المائية للمحاصيل في المملكة العربية السعودية» الذي يوضح تماماً بأن هذا المحصول يستهلك ما يزيد على خمسة وثلاثين ألف متر مكعب للهكتار في السنة عند استخدام مياه جديدة النوعية واستخدام الري بالرش وهو ما يشكل أكثر من أربعة أضعاف استهلاك القمح. والجدول التالي المبني على الاحصائيات الصادرة من قبل وزارة الزراعة يوضح ان التوسع في زراعة هذا المحصول يزداد عاماً بعد آخر. ويلاحظ من الجدول أن المساحة المستغلة لانتاج البرسيم في عام 2009م تزيد عن مئة ألف هكتار (102106 هكتار) وكذلك تشير الاحصائيات الرسمية إلى أن الأعلاف الأخرى خلاف البرسيم تزرع في مساحة تزيد عن ثمانية وخمسين ألف هكتار (58250 هكتارا) لتبلغ المساحة الاجمالية المخصصة للأعلاف في عام 2009م حوالي مئة وستين ألف هكتار (160356 هكتاراً) أو ما يعادل 19.2٪ من اجمالي المساحة المخصصة للانتاج الزراعي في هذا العام. 2- الزيتون: تم ادخال هذا المحصول الزراعي غير الاستراتيجي إلى شمال المملكة بواسطة مجموعة من المزارعين مما أدى إلى التوسع بزراعته سنة بعد أخرى وقفز عدد الأشجار المزروعة حالياً في مناطق انتاج الزيتون (الجوف - حائل - تبوك - الحدود الشمالية) إلى أكثر من (12) مليون شجرة وفقاً للأرقام الصادرة عن الادارات العامة لشؤون الزراعة في تلك المناطق.. ويوضح الدليل الإرشادي لتقدير الاحتياجات المائية الذي أشير إليه آنفاً إلى ان استهلاك محصول الزيتون من مياه الري للهكتار الواحد (عدد الأشجار في الهكتار 400 شجرة) يتجاوز نظيره المزروع بالقمح ويصل عند استخدام مياه جيدة النوعية مع استخدام الري بالتنقيط إلى (8513م3) في السنة ويرتفع هذا الرقم عند استخدام الري السطحي إلى (12769م3) في السنة.. ويلاحظ من هذه الأرقام ان زراعة هذا المحصول غير الاستراتيجي تقتطع جزءاً من الموازنة المائية المخصصة للنشاط الزراعي السنوي في المناطق الشمالية للمملكة والتي تعتبر الأفضل من حيث المناخ الزراعي لزراعة محصول القمح والحصول على معدلات عالية في وحدة المساحة. 3- القمح: يعتبر هذا المحصول الاستراتيجي بمثابة الهواء الذي يتنفسه سكان هذا الكوكب وهذا المحصول يزرع تحت ظروف المملكة وفي جميع مناطق الزراعة المروية اثناء فصل الشتاء، وقد تسبب التوسع غير المدروس في زراعة هذا المحصول إلى استنزاف المياه المخصصة للانتاج الزراعي بكميات غير مبررة، مما دفع العديد من الكفاءات الوطنية الزراعية وبعض الكتاب إلى التصدي لهذه الظاهرة وايضاح أضرارها وفي نهاية المطاف صدر قرار مجلس الوزراء الموقر رقم 335 وتاريخ 9/11/1428ه الذي يقضي بتوقف المؤسسة العامة لصوامع الغلال ومطاحن الدقيق عن شراء القمح المنتج محلياً تدريجياً في مدة أقصاها ثماني سنوات وبمعدل سنوي يعادل (12.5٪) والمؤكد انه كان من نتائج هذا القرار تقلص المساحة المستغلة لزراعة القمح سنة بعد أخرى. خاتمة: يتضح مما تقدم أن ما يحدث على أرض الواقع حالياً في القطاع الزراعي لا يحقق الأمن المائي كما أريد له، وفي نفس الوقت فإن ما يتم استخدامه من مياه لصالح القطاع الزراعي لا يساهم مساهمة معقولة في تحقيق جزء من الأمن الغذائي لهذه البلاد. إن المؤشرات والأحداث في القطاع الزراعي العالمي تشير إلى ان المستقبل سوف يشهد اضطرابات حقيقية فيما يتعلق بتوفر المحاصيل الزراعية الاستراتيجية وخصوصاً القمح، ولذلك.. فإني أتوجه بمناشدة قيادة هذه البلاد وعلى رأسها خادم الحرمين الشريفين - حفظه الله - بإعادة النظر بالقرار رقم 335 الذي يقضي بإيقاف شراء القمح من قبل المؤسسة العامة لصوامع الغلال ومطاحن الدقيق والموافقة على تخصيص وبحد أعلى ما يعادل مئتان وخمسون ألف هكتار (250000 هكتار) سنوياً لانتاج محصول القمح وتوزيع هذه المساحة بين مناطق المملكة واتباع نظام التعاقب (Fallow) داخل نفس المنطقة من سنة إلى أخرى بحيث تتاح الفرصة للغالبية العظمى من المزارعين للاستفادة من هذا التوجه مع شرائه من المزارعين بسعر عادل. هذا التوجه سوف يكفل انتاج ما بين مليون وستمائة ومليون وسبعمائة ألف طن سنوياً وبالاضافة إلى ذلك فالفائدة الأساسية من هذا التوجه هي ضمان المحافظة على ثقافة انتاج هذا المحصول لأن الانقطاع عن انتاج القمح لعدد محدود من السنين سوف يقضي على البنية التحتية لهذا المحصول ويؤدي إلى اختفاء المعرفة الفنية لانتاجه مع ملاحظة أن كمية المياه التي سوف يتم استخدامها لهذه المساحة تصل إلى أقل من مليار وتسعمائة مليون متر مكعب (1.9 مليار م3) في السنة (معدل استهلاك القمح من المياه يبلغ 7500م3 للهكتار) وهذه الكمية تمثل أقل من نصف ما تم استخدامه لري محاصيل الأعلاف في عام 2009م التي حان الوقت الفعلي لتقليص انتاجها بنسبة كبيرة جداً.. كذلك فإني أتوجه بمناشدة قيادة هذه البلاد حفظها الله صرف النظر عن الموافقة على التوسع بزراعة محصول الزيتون فهذه البلاد عاشت لقرون بدون هذا المحصول ويمكنها ان تعيش قروناً أخرى بدون هذا المحصول مع ملاحظة سهولة تأمين الاحتياجات المحلية من منتجات الزيتون من الأسواق العالمية.. إلا أن الواقع يشير إلى استحالة استمرار الحياة دون محصول القمح الذي لن يكون تأمينه من الآن فصاعداً ميسراً من السوق العالمية وأخشى أن نجد أنفسنا في موقف لا نحسد عليه ونضطر لاستجداء الآخرين لتأمين هذه السلعة الزراعية الاستراتيجية. والله من وراء القصد. * مدير عام المركز الوطني لبحوث الزراعة والثروة الحيوانية بالرياض.
