حسمت معركة الانتخابات الأوكرانية لصالح زعيم المعارضة يوشينكو - رغم عدم الإعلان الرسمي بعد لنتائجها - وحقق الغرب بذلك انتصارا جديا على روسيا حسب جميع التقديرات تقريبا فالملاحظات والطعونات بعدم نزاهة الانتخابات والخروقات التي قام بها أنصار يوشينكو لن يؤخذ بها وإن كانت اللجنة المركزية والمحكمة وحتى قسم من المراقبين مضطرين للاعتراف بحقيقة وجودها لكنهم يعلنون أنها بسيطة وتقنية لا تستدعي عدم الاعتراف بشرعية وديمقراطية الانتخابات ..!! ناهيك عن وصول يانكوفيتش نفسه إلى قناعة حاسمة بضرورة تقديم استقالته . ولكن طالما أن صراعا بهذا الحجم والحساسية قد حسم شكلا فلا بد من قراءة خلفياته التي ستبدأ تشظياتها بالظهور عبر محاولة رأب الصدع من جهة ومحاولة الاتفاق على معايير اللعبة الجديدة من جهة ثانية لكي لا ينتقل الصراع إلى الأقطاب الجاذبة مما يشكل خطرا أكبر بكثير . وهكذا حول ماذا يدور الصراع في الجوهر ؟ من الواضح لأي متابع أن هناك محورين رئيسيين جيوسياسي واقتصادي وكلاهما متداخلان في بوتقة صراع المصالح بين موسكو والغرب عموما . وسبق ل «الرياض» أن نشرت تحليلا إخباريا تحدثنا فيه بالدرجة الرئيسية عن المحور السياسي لذا سنحاول هنا أن نتحدث عن المحور الاقتصادي مع التأكيد على تداخلاهما كما ذكر قبل سطور . كلا المرشحين محقان في أن التصويت يتم عمليا على مستقبل أوكرانيا وبهذا المعنى على المسارات القادمة : بأي اتجاه ؟..!! وكان ما يطرحه بعض الساسة في الغرب حول أوكرانيا مع من ؟ مع روسيا أم مع الغرب يحمل أرضية واقعية متنامية بغض النظر عن الانتقادات الحادة التي وجهها وزير الخارجية الروسية لهذه التصريحات .. ومما لا شك فيه أن دخول أوكرانيا في المؤسسات الغربية وخاصة الاتحاد الأوربي والناتو هو الحلم الأول ليوشينكو وفريقه . وكان بوتن محقا عندما أوضح أن هذا المطمح لن يتحقق حتى على مدى 10-15 عاما مذكرا بتجربة تركيا في هذا المجال وبالتالي لا بد من التفكير باليوم الحالي . هناك طريقان رئيسان إذن طريق عبدته روسيا بجهود متلاحقة خلال سنوات وبات قاب قوسين أو أدنى من إثبات فعاليته وهو إنشاء مجال اقتصادي موحد يضم روسيا وأوكرانيا وبيلاروسيا وقازاخستان . وطريق مواز يعتبره يوشينكو وفريقه البديل الأفضل وهو التوجه نحو السوق الغربية بجميع السبل المتاحة وخاصة عبر استغلال الظروف الجديدة الناشئة والتعاطف الغربي مع السلطة الجديدة ..في المجال الأول تبدو الآفاق متواضعة نسبيا ولكن أكثر ثباتا وقدرة على حل المسائل الملحة فالمجال الاقتصادي الذي يتحدث عنه بوتن يشمل واقعيا أكثر من ثلثي الاتحاد السوفييتي السابق سواء سكانيا أو رقعة جغرافية أو قدرة اقتصادية ومكامن للمواد الخام وقد تم توقيع معظم الاتفاقيات المتعلقة بتشكيل هذا المجال الذي من البديهي ان لا ترتاح المؤسسات الاقتصادية الغربية إلى نشوئه بلا زيادة فعاليته وخلق أرضية مستقرة للتطور الاقتصادي كما حدث في الصين. ناهيك عن أن هذا الطريق يشمل كذلك إنشاء مناطق تجارية حرة تعطي هامشا كبيرا للقطاع الخاص المتنامي في هذه البلدان الأربعة . والمقامرة على منطق الأواني المستطرقة في التعامل مع روسيا والغرب بحيث تكون كل زيادة في هذا التعامل مع الغرب موازية لتناقص مع روسيا لن يكون في صالح أوكرانيا بالطبع - مرحليا على أقل تقدير - فحصة الاتحاد الأوربي بعد توسعه إلى ( 25 دولة) وصلت في النصف الأول من العام الفائت 34٪ من مجمل التجارة الخارجية الأوكرانية أي قرابة 11 مليار دولار في حين وصلت حصة روسيا عن نفس الفترة 29٪ أي ما يزيد عن 9 مليارات دولار والحديث هنا يتم عن 25 دولة مقابل روسيا وحدها. في غضون ذلك تبقى الصادرات الأوكرانية التقليدية هي المحور من المواد الخام والمنتجات المعدنية وخاصة الأنابيب والطاقة (وخاصة الكهربائية) والأسمدة والنسيج وبعض المنتجات الزراعية في حين تدفقت وستتدفق بالمقابل البضائع الأوربية إلى السوق الأوكرانية وخاصة التكنولوجيا المتطورة . هذه اللوحة في حال تكريس الطريق الثاني عبر التوجه الحاسم نحو الغرب ستتكرس مع تزايد في تأثير البضائع الأوربية على السوق الأوكرانية وإبعاد البضائع الروسية بنفس المقدار وسيقابل ذلك على أرضية ردود الفعل والتعامل بالمثل تضييق الخناق على الصادرات الأوكرانية إلى روسيا وبدل الانفتاح والمجال الاقتصادي الموحد قد تنشأ حرب الحصارات غير المعلنة مما سيؤثر سلبا على وتائر النمو الاقتصادي الأوكراني وستغدو سنة بعد أخرى مضطرة للمساعدات الأوربية وسوقا للاتحاد الأوربي حسب رؤية الجانب الروسي لهذا المسار حيث يتم الاستشهاد بمعطيات هامة في الواقع وهي أن الميزان التجاري يشير إلى أن روسيا تستورد 38٪ من أوكرانيا من هذا الميزان بضائع ومكنات وآلات ووسائط مواصلات وأجهزة في حين تصل الصادرات الروسية من الطاقة إلى أوكرانيا ما نسبته 35٪ من النفط و18٪ من الغاز بمعنى أن هذه العلاقة أكثر من حيوية وحياتية بالنسبة للاقتصاد الأوكراني ومصانع أوكرانيا بشكل حيوي كبير حيث حفز التطور الصناعي الروسي الصناعات الثقيلة في أوكرانيا ناهيك عن مجال سوق العمالة المفتوح للأوكرانيين في الأراضي الروسية هذا إضافة إلى آفاق الاتحاد الجمركي المرافق . وروسيا معنية تماما في الحفاظ على وتائر تطور العلاقات الاقتصادية التي بذل الرئيس بوتن لإنجاحها جهودا هائلة كانت لها أيضا خلفياتها السياسية حتى ان بعض التعليقات اعتبرت هذه التوجهات مراهنة على فريق كوتشما لمواجهة دعم الغرب للمعارضة منذ سنوات فقد شهد التعاون الاقتصادي الروسي الأوكراني تطورا نوعيا هائلا في السنوات الأخيرة حتى اعتبر الجسر الذي تسعى موسكو خلال شد كييف من جديد إلى الأحضان الروسية حيث تم توقيع العديد من الوثائق والاتفاقيات التي تنظم الأرضية القانونية للتعاون في مجالات تبادل السلع وتنفيذ المشاريع المشتركة والمجالات المصرفية وصناعة الطائرات وخاصة آن 40 التي تنافس جديا مثيلاتها الغربية والطائرات الحربية والصواريخ الفضائية المدارية والاتصالات ووصل الأمر حد التفكير ببناء جسر على البحر يصل البلدين في منطقة القرم . ويرى المعلقون الروس أن هذه المجالات ستكون تحت إشارات استفهام لاحقا بعد تحول أوكرانيا بحماس وبمحض إرادتها نحو الغرب وبالتالي ستكون معطاءة وسخية جدا لإرضائه حتى ولو كان ذلك على حساب مصالحها الأكثر استمرارا ولكن لذي البصيرة التاريخية . ويعتقد الخبراء الروس بالمقابل أن أوكرانيا ستحصل على فوائد ومساعدات محددة من الغرب إلى حين تكريس نظام شامل موال له وللناتو ليس إلا ثم يتم تكريسها كمورد للمواد الخام وبعض السلع البسيطة وسوق للمنتجات الغربية مع هدايا تعويضية كالاعتراف باقتصاد أوكرانيا كاقتصاد سوق والمساعدة في مساعي دخولها إلى منظمة التجارة العالمية . والأهم من كل ذلك حسب رأي المحللين الروس أن الواقع سيفرض حيثياته وقوانينه ولن تستطيع البضائع الأوكرانية تحقيق معايير السوق الغربية السلعية أو منافسة بضائعها.