بلغة شعرية آسرة يحكي المبلّغ الجمالي عباس زينب يعقوب جانباً من سيرة وعيه بالفن والكتابة، ومنادمته لمن يسميهم أصدقاء الفتنة (من مكان الطفولة.. إلى حضرة المرسم.. إلى أجواء المعارض). إنه الفنان البحريني عباس يوسف الذي صدم المشرف الإداري في يومه المدرسي الأول باسمه الفانتازي المركّب، فيما يبدو رغبة لتعميق دلالة تعلّقه وامتنانه لأمه التي أهداها كتابه (بلون ماء النار.. برذاذ حليب المعدن) حيث تلمّس أبجديات الحرف واللون من مكتبتها المتواضعة، وهي التي لا تجيد الكتابة أصلاً، كما تمثلت تلك المرجعية المعرفية الجمالية إبان طفولته في (جزء عمّ) بالإضافة إلى بعض كتيبات الأدب الحسيني ذات الطابع الشعري، التي كانت تترنّم بها في المناسبات الدينية، حيث التقطتها عيونه الصغيرة وهي تُدس بعناية وقدسية داخل قطيفة من القماش الأخضر. ومنذها صار الكتاب جزءاً من تكوينه العاطفي والفني أيضاً، حيث تعزّز ولعه بالأدب شعراً وسرداً. هذا الإنسان الفنان، المؤمن بقدره الخافت، يقول عن نفسه انه من المحظوظين، لأنه عاش وانتمى إلى جيل (التفتُّح والانفتاح) حسب تعبيره، قبل أن تنمحي السُّبل، وتضيق المدارات، أو كما يصف اللحظة الظلامية المهيمنة اليوم كطقس معتم بخطفات شعرية ذات دلالة (ما كان باباً صار جداراً... ما كان معرفة أضحى ضلالاً). ليستمر في الرثاء والتغني بزمانه ومكانه وناسه، كما يتلذّذ ويتعذب في آن بالخروج (من مساحة جغرافية تضيق بأصحابها كل يوم، كلما اتسع أفق الأحلام). حيث يعود إلى لحظة انضمامه لصديقه التائه والغائب حد الذوبان الفنان عبدالجبار الغضبان في (مرسم عشتار غرافيك) الذي يدين له بكل ما هو عليه اليوم من جنون فني، متنازلاً عن تعداد مآثره الفنية وسجاياه الشخصية لينروي من خلال ندمائه ومع رفاق دربه الفني، كما يصف تمنعّه هذا بعبارة مثقلة بالتواضع كالسنبلة المنحنية لفرط حمولاتها (ما لي كلما أردت التحدّث عن نفسي يحضر الآخر فأنساها). عباس الذي يضيء بإزميله وفرشاته عتمة الصفائح الخامدة مستفز على الدوام (بهسيس اللون والمعدن). ولذلك يتواجد بمنتهى الوجد وبدون كللٍ أو مللٍ في حضرة الفن، وعند عتبات مزاره الأثير، أي في دهشة المرسم (حيث اللون ينهمر كالدمع على الرمش... وحيث موسيقى اللون وعطر الأصدقاء... حيث الصبغ يستحيل كلاماً ونطقاً وبلسماً) ففي هذا (العالم المسكون باللون والسؤال) يجد جنته التي لا تكتمل إلا بالأصدقاء الأنهار. وهو – أي المرسم – كما يعيشه كعادة عضوية يومية (مكان غير كل الأمكنة. قيل عنه واسع لضيقه.. قيل عنه نهر متدفق لسيلان الحب منه وفيه). أما الفرشاة فهي (ملهاة الأصابع). الصانعة الماكرة لبهجة و(كذبة الألوان). أو كما يخاصرها بوله العاشق وهو يخاطبها بنبرة حب وحنان كمن يدلّل حبيبته (الفرشاة فعل حبك وجمالك الملقى على القماشة.. الفرشاة ذهابك إلى سديمك). فمن حراكها الواعي والعبثي الراقص تتولد (اللوحة/القصيدة/الصورة) التي يراها (بيان تبليغ للجمال...لرحيق الحب...للجسد في الماء...للنهار). بهذه الفرشاة يخط بيان فلسفته وبلاغته الجمالية، فهي أداة تفكيره بقدر ما هي وسيلته للتزحلق على سطح اللوحة بخفة شعورية، حيث يمارس لعبته الفنية كما يتمثلها في (رسم اللاواقع – باعتباره ترجمة للواقع في محاولة اكتشاف اللامرئي عبر الاستناد إلى خصائصه وأسسه التي تدفعها وتقودها إلى استمرارية البحث والتنقيب في عوالمه الخفية العصية على التناول ظاهرياً بشغف كفعل يحاول رسم أشكاله بخفة خط). وذلك غيض يكاد لا يئكر من فيض جُمله الجمالية التي لا تنحاز – برأيه - إلا للمجانين بالقول والكلم والقلم والكتاب. هكذا يمسح المسافات المتوهمة بين اللوحة والقصيدة، وهو المعتقد حد اليقين بألاّ قصيدة بلا صورة أبداً، أو هذا ما يحتّمه عليه مزاجه التصويري، كما يتأكد هذا الهاجس في كل عبارة من عباراته التي تنوء بالشاعرية. ومن ذات المنطلق يتعامل مع اللوحة أي (باعتبارها فضاء مفتوحاً على عالم البحر والخشب). وهي – أي اللوحة – كما يفهمها ويحس يستشعر تشكُّلها (كائن رمز.. مؤسس في الجمر... كائن عصي على الاصطياد منذ وهلته الأولى) أو هي، حسب معايشته المضنية لمخاضها (جنين يُولد من رحم التجربة... من رحم الأنين). وهي بالتالي (عالم موجود في الروح، أو هو جزء من هذه الروح التعبة، الروح التي تبحث عن: مأوى لتحط رحالها). بسجيته يحلل يحلل الصورة وسطوتها التي برأيه (صارت حدثاً، واضحت لساناً صامتاً، وقلباً متدفقاً بالحب، مشحوناً بالأسى). ومن ذات المكمن التصويري أيضاً يتأمل ذاته وهي تتلاشى في مفرمة الزمن، كما يتسرب ذلك الإحساس في عباراته الحزينة (صباحاً تستقبل زمنك الذي لا خيار لك في رفضه أو تغييره.. مجالك الوحيد أو حريتك إن شئت التي بإمكانك ممارستها هو ذهابك الخفيف في مشروع انتحارك البطيء). وعلى تلك الحافة الحادة يرثيها وهي تذوي، لكأن التفكير التراجيدي يؤدي به ككائن، وبمعنى ما من المعاني إلى الوقوف قبالة صورة معقدّة حسّياً (تحطيم صورة من تحب) ولا أحب للإنسان من ذاته، وهنا يكمن سر هشاشته المواربة، وحزنه المدسوس برهافة بين طيات سيرته. وبعد أن يتعب من التحديق في (لوحته/مرآته) وتمريغ سيرة وعيه بالفن والحياة، يلتفت بكل الحب لمرايا ومراسم الأصدقاء، أو ما يسميها بشاعرية الفنان (جدران المعرض). حيث يستدعي الفنان الراحل برهان الدين كركوتلي الذي (أتعبه الرحيل وأنهكه الترحال). ومن خلال عبارات عميقة الأثر سمعها منه يعيده إلى واجهة المشهد (الثورة حس طبيعي في الإنسان كرسام... أن تكون ثورويّا هو جزء من التزامك الجمالي.. الثورة إحساس جمالي قبل أن تكون موقفاً سياسياً). كما يتأمل بفطنة الفنان فوتوغرافيات حسين المحروس، المهووس بتوطين القديم في الذاكرة، والمُتقن للعبة توزيع العناصر في الصورة، حيث يصف اشتغاله بومضة ضوء مسترخية. وبالمقابل يرصد الخطوة التي اجترحها الشاعر والمسرحي محمد الحلواجي نحو اغواءات الصورة ببعدها التجسيدي والتخييلي، إذ لم تلغ جاذبية الصورة الفوتوغرافية المعتمدة على حيوية الكتلة بلاغة الصورة الأدبية عنده، بقدر ما كانت عاملاً محرّضاً له على تحقيق دينامية الرؤية. وبمقاربة حانية يجادل منجز الفنان موسى عمر، المبهور بطقس المدينة وتجلياتها، والهائم بترميزاتها وهو (يستفز مدنه الحالمة) منوّهاً بموتيفاته اللونية وخطوطه الطرية الماضية بحرية في مساحات اللوحة، المتأتية من مخيلته المنفلتة من الصبوات الأولى، كما يراقب سيد علي محمد وهو يشيّد تكويناته المعمارية المتناغمة في معرضه (أسود وأبيض) المكتظ بلقطات أظهرت وعيه وحساسيته المتقدمة في التعامل مع المساحات والكتل والفراغ. ثم يتسمّر بكل وعيه وبكرية فطرته في معرض الفنان ابراهيم بوسعد (على مائدة العشاء). وهي برأيه (مائدة شهية لكنها بعيدة عن شهوة التلذُّذ بالطعام، وجبة شهية محكمة الحبكة والبناء والتكوين محورها الإنسان، فالانحناءات والتحويرات في الجسم البشري تأخذ إلى جو الرهبة المتنامية... وتظل مستمرة في بحثها عن أسطورة الخلود والبقاء) فيما يستمر هو في مهمة تفكيك الرموز باعتبارها حالة بحث. ومع الفنان رافع الناصري المهووس بكسر الشكل وتحطيم القالب يلهث (وراء لذائذه البصرية) قارئاً ما وراء معرضه (عشر سنوات، ثلاثة أمكنة) الذي يقوم على لوحة مكونة من عالمين أو أفقين: سفلي كوني حضاري، وآخر علوي متسامٍ، حيث يلتقي الوعي الحضاري لشرق آسيا مع الوعي الأوروبي والعربي، باستلال علامات وإشارات من الموروث الحروفي العربي كعناصر إنسانية ناتئة في المشهد كسؤال. كذلك يتلمس الرقاع الطرية للفنان محمد القاسمي، المسافر في حالات مختلفة، محاولاً استكشاف سر الترميز الهائل للجسد الإنساني، من خلال تأمل ضرباته اللونية وحياكاته باعتبارها خصائص فنية في عالم جمالي صرف حيوي وناطق بألوانه ويقظة ذاكرته. ثم يقترب من لوحة الفنانة لبنى الأمين، ليقارب مشروعها باعتباره قدراً وخلاصاً، بما يقوم عليه من تخريجة بصرية قوامها الحب والمغامرة وعلى (حساسية اصطياد اللقطة وصوغه وعجنه وإعطائه بعداً زمنياً). ومن هذا المنطلق يحتفي بالتجربة وأهميتها من حيث كونها منجزاً نسوياً جريئاً عمادها بساطة شكل تبحث في نقاء فعلها. أما الفنان الراحل ناصر اليوسف الذي يعادل الفن باستمرارية الحياة فيلامس عوالمه بشاعرية فائضة، إذ يصف الرسم عنده بأنه (فردسة الدنيا وتوسيع تخومها بشفيف الروح) من خلال أعماله التي ترصد وتوثّق التراث الشعبي والتاريخ الاجتماعي، التي تنم عن هيام بالموتيفات الشعبية الخفيفة التي يؤديها (ببصيرة تعبيرية) تتبدى حتى في الأعمال الغرافيكية لهذا المفطور على تعبيرية محضة، الذاهب إلى الرسم بوصفه خلاصاً. ثم يعرّج على الفنان شاكر حسن آل سعيد، المتمرد على الشكل المألوف بأعمال سماها (ما بعد التجريدية) متنقلاً بين طبقات اللوحة الثلاث: المزدوجة، والتخريقية، والتراكمية، التي تشكل استمرارية لحالة بحثه الفني والفكري والتقني، والتي تتخذ في نهاية المطاف من الوجهة الفنية صبغة الأجواء الغرافيكية، المؤدية روحياً إلى الصوفية، فأعمال المعرض حسب تحليله (ما هي إلا كوّات الانفتاح والعروج إلى العوالم الخارجية بحالاتها ودلالاتها ودواخلها وامتثال الإنسان لوجوده برموزه وإشاراته، عبر أجواء طقوسيتها حيث تكمن الهيمنة التي يقترحها آل سعيد على المتلقي). بعد ذلك يتمدد في فضاءات الفنان علي طالب المنفتحة على اتساع بصري هائل، والمسكونة بالإنسان كعنصر أساسي، وكمحور لبناء العمل الفني، حيث الخبرات المرئية واللامرئية، المتمثلة في الأشكال التي (تعمل بصورة مفرطة على مضاعفة المعنى والمضمون وتنويعه) وتعزير مكانة الفكرة، أو بعثها بمعنى أدق على إيقاع انعتاق الروح واتساع الرؤية. وبمنهجية فنية في مقاربة (الشكل/التكوين) يكتشف في نص (الجواشن) المشترك بين قاسم حداد وأمين صالح قيماً بصرية، حد التصريح بكونه نصاً بصرياً، قوامه الخط المكتوب به النص، والشغف بالصورة، وتدرجات اللون الأسود الذي يتمدد راقصاً في (البياض/الفراغ) لينتج رسوماً كروكية مؤداة عبر كتابة غرافيكية. وعند الحديث عن عبدالجبار الغضبان الذي (أغوته الأحماض ومباضع الحفار) يكون الكلام عن مرجعية فنون الغرافيك في البحرين، وعن عالم المرأة غرافيكياً كما يمفصل نظراتهن المترفة المترفّعة على أجساد مغوية، مسكوكة بخطوط رشيقة طرية وخشنة وصلبة في آن على معدني الزنك والنحاس والمطبوع على الورق، حيث تتبعثر وجوه يفصحن عشقاً وبهاء لامرأة (محمّلة أو حاملة هموم هذا الكون). وبغريزة مصعّدة حداثياً يستعرض منحوتات من زيمبابوي بتمرير أصابعه على كل (خط وسطح أملس وأجرش) للتماس الحسّي مع (حجر بعرس اليد... حجر يكتب تاريخاً) حيث الأعمال التي تنم عن تعبير عفوي حر منبعه الروح الخلاقة والحرفية العالية. وبعد ذلك التطواف يدخل محترف ضياء العزاوي ليستدفئ ببريق لون وشفيف روح، حيث يرتشف (فعل الحياة وديمومتها الجانحة) كما يتولّد من (التآلف والتضاد... التقارب والابتعاد) وحيث العربدات الجريئة وجسارة (التجريب في اللامعروف). ولأنه بقدر ما يحب التحديق في اللوحات يجيد التخرُّص والتأويل، رأى في أعمال الفنان حسين عبيد (بياناً يتحدث عن الحالة الروحية الانكسارية التي نعيشها). وعليه شبّه لغته الاختزالية، وتكويناته المتسمة بالصرامة، ووشائجه التصالحية بين ما هو علوي روحي وجسدي أرضي (كمن يعشق المرافئ... مشدوهاً بالغموض). فيما وجد في تجربة الفنان عبدالرحيم شريف تجديداً ومغايرة وتجريباً متعاظماً، لدرجة يصعب وضع خبراته المتشعبة والمتراكمة تحت عنوان، خصوصاً عندما يقارب الوجه البشري، حيث يهبه (كل قيمه الإنسانية، مبرزاً ملامحه، ومفصحاً عن ثناياه بخفة وشفافية الماهر، معيداً الاعتبار إليه بحيوية لونه الخلاق وتعبيرية خطوطه الصارمة ورحابة وعمق تكويناته القوية المتماسكة). ليصل إلى الفنانة هلا آل خليفة المهووسة بحساسية المكان، كما يفصح معرضها المشحون بالأسئلة المستفزة، والعناصر المتحركة في الزمان والمكان، إلي أن ينهي تحديقه في جدران المعرض بتأمل أعمال جهاد العامري التي اعتبرها بمثابة (مرايا لعالمه النفسي ولمشاعره وانفعالاته واستذكاراته) كما يستحضر كل تلك المتوالية من الخشب والحجر والمعدن من الذاكرة. ورغم أن تلك الهسهسات والمطالعات المتفرقة مكتوبة داخل لحظات مختلفة، وبمنطلقات جمالية ومعرفية متباينة، إلا أنها تلتقي في وحدة موضوعية، وتحت سطوة وجمال الحرف الذي يتعامل معه عباس يوسف كمخلوق له طبائع وصفات وأوضاع وحركات، بما هو أبجدية لكل شيء، حسب وصفه، أو هكذا استطاع أن يجعل من الحرف في كتابه مفردة تشكيلية، أو وحدة جمالية تسيل من اللوحة (حبراً وماءً وقولاً وبوحاً) أو هو الشعر المترسب في قاع اللوحة، المبثوث كنسيم لافح بين فراغاتها وكتلها وضوئها وظلالها، وهو أمر غير مستغرب على هذا المجنون، المسكون دائما بخفة شعورية مُبهجة، وعربدة فنية فرحة، الذي راود نفسه ذات يوم بالذهاب (إلى البحر بجناح فراشة). وإذ لم يفعلها واقعاً ارتكبها كتاباً.
