قالوا بأسف وحسرة إن الملحن الشهير سراج عمر ألقى مكتبته في مكب النفايات بعد ان عمل على تجميعها ما يقارب الخمسين عاما ليفضّل موسيقارنا رميها(هذا لم يحدث),انما تم حفظها في ارشيف مصغر,لكنهم قالوا انه رماها تخلّصاً من هذا التاريخ والى الأبد بعد حالة الإحباط والانعزال التي عاشها منذ عدة أعوام. سراج عمر أكّد الرؤية الجديدة للحالة الفنية,بأن واقعها يتغير جذرياً لينسلخ من جلد إلى آخر. إذن هذا هو الوضع المتردي الذي تعيشه الساحة الفنية والتي تمثل في سمتي الجحود والنكران رافقها قلة إبداع فني أثّرا سلباً على مستوى الأغنية السعودية بشكل عام . وبقراءة واعية لهذا التراجع نجده لم يأت هذا التلكك إلا بعد ان رحل الأب الروحي للأغنية السعودية طلال مداح (رحمه الله ),هذا ما قد أشار إليه معظم النقاد والفنانين بعد رحيله مباشرة اجمعوا على ان الساحة فقدت عرابها والقلب المحرك لها في استشفاف للمستقبل منهم حينها وما ذهبوا إليه هو ما صار واقعا نعيشه حاليا على المستوى الفني للساحة . منذ بزوغ طلال مداح في منتصف الخمسينات اخذ على عاتقه إبراز الأغنية السعودية بقالب جميل ومبدع ليخرجها الى رحاب أوسع فكان صالون طلال المداح يعج بالأدباء والمثقفين من كل مكان يجتمعون حول صوت طلال الذهبي ليتجرعوا على مائدة حنجرته أعذب الألحان في قالب شجي من التنغيم العبقري الأخاذ, ليجعل من تلك المرحلة مرحلة حبلى بكل ما هو إبداعي سواء على مستوى الشعر او كتابة النصوص الغنائية الحديثة او على مستوى المواهب الفنية التي كان طلال يدشن ظهورها بكل أثرة ودعم ونبل لا يجسر على الإتيان به سوى الكبار فقط ومن أوتوا حظاً من السخاء والثقة وحب الناس لم يشهده سواه, ليبرز جيل من الشعراء والمثقفين والإعلاميين الذين كان طلال المساهم الأبرز في ظهورهم وشهدت الساحة الفنية انطلاق اكثر من شاعر والذين أضحوا جميعا نجوما كبار في سماء الشعر والفن ..! هذه المكانة التي احتلها طلال لم يجيرها لنفسه بل سخرها لكل من يرغب في ان يكون شريكا له في الساحة الفنية وكان دوما يردد كلمته المشهورة(ان القمة تتسع لأكثر من فنان ),تعود الذاكرة وكيف استقبل كل من سراج عمر ومحمد عبده وهما صبيان عندما قصداه في عز توهجه وعملقته الفنية ليشير على سراج بالتوجه للتلحين وعلى محمد عبده بالغناء بعد ان غنيا أمامه,وهو ما يجعلنا نستطرد في سرد تلك الموهبة الكبيرة في اكتشاف المواهب من خلال دعمه للفنان عبادي الجوهر عندما احضره الراحل لطفي زيني ,وكيف منحه لحناً جباراً لأغنية ( يا غزال) واتبعها بأخرى لا تقل جمالاً وسحراً وهي أغنية ( يا حلاوة )وكيف دعم علي عبد الكريم في صباه بعد ان أعطاه مبلغ خمسمائة ريال ليبتاع له عودا ويصطحبه في بعض حفلاته,ودعمه وتبنيه صوت ابتسام لطفي و عتاب كداعم للأصوات النسائية,وحثه لسامي إحسان ومحمد شفيق بالتوجه الى التلحين بحكم خلفيتهما الموسيقية وكان أول من غنى لهما تشجيعا لهم,إضافة الى تبنيه اصواتا شعرية شابه مثل ثريا قابل والتواصل مع المبدعين أمثال الأمير محمد العبدالله الفيصل والأمير بدر بن عبد المحسن,لتعيش الساحة الغنائية بعد ذلك عصرها الذهبي . نَخلُص الى حقيقة لا تقبل الجدال وهي اننا جميعاً ندين له وبموهبته الخلاقة البديعة وما أحدثته من سمو في الموسيقى التي عطّرت وضمخت خليجنا العربي إلى محيطنا العربي بصوت ذهبي نادر. وللدلالة على تأثير هذه الهامة الفنية على الساحة لمن فاته تتبع مراحل تأسيسها حتى بلوغها ذروة التميز والعطاء المبدع نذكر بما حدث مطلع الثمانينات الميلادية حين ابتعد طلال عن الساحة الفنية واستمر في قطيعة فنية لمدة ليست بالقصيرة مما أدى إلى تراجع الأغنية السعودية على المستوى العربي والخليجي خصوصا وبدأت الأغنية الكويتية تتصدر الساحة الخليجية وشهدت تألق الفنانة رباب والفنان عبد الله الرويشد ونبيل شعيل في وقت كان رواد الأغنية السعودية متواجدين على الساحة أمثال عبد الله محمد وفوزي محسون وعمر كدرس إضافة إلى الآخرين من الملحنين الذين برزوا مع طلال مثل سامي إحسان وسراج عمر وغيرهم من الملحنين الشباب أمثال طلال باغر ومحمد المغيص,وأصبح الكل ينادي بعودة طلال الى الساحة وأفردت صحفنا صفحات تحث طلال على العودة بشكل شبه يومي بعد تدني المستوى الفني المصاحب لغيابه. وما أن عاد طلال من قطيعته حتى دبت الحياة الفنية وعاد التوهج الى الساحة بعودة الموال والموسيقى والشعر و الحفلات ولعل حفلة الطائف(1985م) التي نظمتها رعاية الشباب حينها كانت البداية للعودة إلى الحفلات وعاد مسرح التلفزيون إنتاجه وبدأ روادنا الكبار بالبروز ثانية وفنانونا أيضا فشهدت غناء محمد عبده لأغنيته الشهيرة ليلة خميس التي لحنها عمر كدرس مع طلال وأغنية من بادي الوقت في نفس الفترة وليغني بعدها أغاني من أجمل ما قدم , وشهدت بروز عبادي الجوهر في مجموعه من الأغاني تعد من أروع أغانيه , و بروز و بشكل لافت علي عبدالكريم ولعل ألبومه (بنلتقي) هو الأبرز حينها , ولعل الحدث الأهم هو ولادة الفنان الصاعد حينها عبد المجيد عبد الله فنيا الذي لقي دعما كبيرا من الأستاذ طلال إضافة الى راشد الماجد ورابح صقر الذي سبقهما بالظهور. التاريخ يعيد نفسه فبعد رحيل المايسترو طلال مداح تساقط الفنانون كأوراق الخريف وبدأت الساحة لدينا تتسم بالفردية وعدم الاحترام ما بين فنانينا وتشوبها الفرقة والجحود , فرأينا سراج عمر يدخل في عزلة وعدم الاهتمام بعد ان فقد الحنجرة التي كانت تبحر بألحانه ليجوب العالم العربي ولتضعه في مصاف كبار الملحنين العرب وهذا ما صرح به من خلال لقائه مع احد الإذاعات الخليجية والذي علل من خلاله اختفاءه عن الساحة بقوله:(برحيل طلال رحل من كان يفرض اسم سراج على شركات الانتاج),والفنان محمد عبده هو الآخر فقد من كان يدعمه ومحفزا له ليستعيض عن ذلك بالبحث عن الإعلام والجري وراء اللقاءات التلفزيونية ليسقط في غياهب الإعلام والإكثار من الحفلات حتى ان قال عنه طارق عبد الحكيم:(انه أصيب بإسهال الحفلات وكل ذلك على حساب إنتاجه الفني الذي لا يتفق مع ماضيه) . ليتوالى تأثر الباقين كعبادي الجوهر الذي خف بريقه وبردت أوتاره التي كانت دافئة بوجود طلال ,وليغيب على عبد الكريم عن الساحة و توقف محمد عمر وعبد الله رشاد, و استمرار عبد المجيد عبد الله في طرح الألبومات التي اتسم بعملية السلق الفني , وأما الملحنون فحدث ولا حرج حيث توارى كل من سامي إحسان وطلال باغر و محمد المغيص ومحمد شفيق وعدنان خوج إضافة إلى سراج عمر , ناهيك عن الشعراء الكبار الذين كانوا نجوماً بكل اقتدار تواروا بعد ان فقدوا من كان يلهم ويشعل قريحتهم الشعرية بأفكار خلاقة , لتصطبغ الساحة بصرعة الأغاني الشبيهة بالإلحان الهندية المزعجة,او بألحان ليس لها انتماء محلي كالفارسية او التركية. على ضوء هذه الشواهد كم نحن بحاجة إلى إحياء ارث طلال مداح وإعادته إلى السطح إعلامياً وثقافياً ليكون مسلكاً فنياً ونهجاً غنائياً وسلوكياً وأخلاقياً يسلكه الوسط الفني للخروج من المأزق , وإذا لم يتم تصحيح وضع الساحة سنرى عبادي الجوهر يعمد إلى (تكسير) أعواده على صدى ماقيل عن سراج عمر باتلاف ارشيفه الفني.