حينما اقتربت السيارة من مشارف الأحساء، وبالقرب من منطقة العضيلية بالمبرز.. بدأت أضواء احتراق الغاز تلوح في الأفق ناشرة نورا باهتا مصحوبا بهباب الدخان، الذي كان يتلاشى في سماء المنطقة المحيطة بالطريق.. وعلى أنغام الموسيقى المنبعثة من مسجل السيارة.. شعر بيده الصغيرة تربت على كتفه من الخلف.. التفت إليه فإذا به يقول له: جدي ممكن أعرف قصة اكتشاف البترول في المملكة؟ هذا السؤال المحرض على الكثير من أحداث الرواية، جاء محطة أولى، وبداية لرحلة رواية (أرض النفط) للروائي أحمد المغلوث، والتي صدرت مؤخرا عن دار الكفاح للنشر والتوزيع، حيث جاءت الرواية في (98) صفحة. استطاع المغلوث في روايته أن يبدأ حبكته الروائية بسؤال.. ذلك السؤال الذي ترك للقارئ اليوم أسئلة شتى عندما أراد أحمد أن يضع كل قارئ يشارك ذلك السؤال، ويبحث عن أسئلة لا تزال اليوم تخالط تلك الأضواء الخافتة، إلا أنها أسئلة لا يمكن لها أن تتلاشى مع تلك الأدخنة التي كانت تتلاشى في سماء منطقة الأحساء. لقد أخذ السارد من ذاكرة الأحساء شاهدا على سرد الكثير من تفاصيل الزمان والمكان، بما كانت عليه وما أصبحت الحياة عليه بعد أن أخذ دخان آبار النفط يتصاعد.. فتلك الشعلة الخافتتة استطاعت أن يكون في مقدورها أن تضيء الليل، وتضيف إضاءات أخرى إلى شمس النهار الاجتماعية.. فلقد استطاعت أن تغير في سرعة مدهشة ذلك الاجتماع حول راديو (الفيلبس) لتصبح الحياة التي يعيشها الأحفاد أخبارا تتجدد كل يوم بتجدد الحياة العصرية التي شقت عباب الحياة محدثة الكثير من المفارقات الحياتية في شتى مجالاتها.. ففصول الحكاية عن النفط كان ولا بد للجد أن يروي تفاصيلها في جلسات عديدة، وكان ولا بد أن يعود إلى مكتبته المنزلية، لإسناد ما يرويه عن قصة النفط، بالأدلة، والبراهين، حتى لا يتوقع الأبناء والأحفاد، أن الجد يسرد لهم حكايات اشبه ما تكون من نسيج الخيال.. فقد كان المغلوث في حبكته يسرد الجانب الواقعي والتاريخي مقتربا باللغة والمعلومة، لتوظيفه في حبكته لتوظيف أكبر جرعة ممكنة من تاريخ الحياة قبل، ومع اكتشاف، وبعد اكتشاف النفط من خلال السرد في تماس مع الحقيقة وخيال الرواية، والواقع وفضاء السرد.. فقد استطاع أحمد أن يوظف تاريخ النفط بعيدا عن مداد المؤرخ، ومجاورا لريشة الفنان التشكيلي، وبأسلوب مختلف عن مهمته ككاتب في زوايا متغيرات المجتمع عندما يكتب عن النفط وذاكرة الحياة. قدم السارد خارطة من الأحداث الواقعية، والأرقام التاريخية، التي استطاع أن يوظفها بأسلوب يزيد من عمق سؤال الحفيد، وبشكل يقدم الإجابات في مفارقات قائمة على توظيف كل هذا لتأكيد حجم المفارقات التي أحدثتها تلك الشعلة الخافتة، فلم تعد كفكفة دموع الجد وإخفائها عن الأحفاد شيئا مستغربا، في ظلال ما يؤولنها به.. فالطرقات المتعرجة بين بيوت الطين إلى مسجد الفريح.. وعربات القواري.. والحياة هناك لم تغب عن الذاكرة، فلم تزل محفوظة في تلك الإجابة على ذلك السؤال، فلم تزل الصور وتلك الكتب في مكتبة المنزل تحكي الكثير عن أرض النفط.. ولم تكن حالة القلق والتوتر من قبيل المشاركة فحسب، لكونها حال من البهجة مثل الذي يسبق استقبال الفرح.. كما للمغلوث رواية بعنوان(العازفة الضريرة) التي صدرت مؤخرا عن دار الكفاح للنشر والتوزيع؛ في (108) صفحات، للروائي أحمد المغلوث. رواية اختار السارد أن تكون بطلتها الدانة ( الدانة الأنثى / الدانة الموسيقى) فلقد كانت الدانة الأنثوية عن المغلوث بنكهة أنثى تعبر جسرا ممتدا أمام سنوات عاشتها كفيفة البصر.. البصر الذي تبصر به عبر ذلك المذياع، فبرنامج عمارة المدن، والآخر في عالم الكتب، وثالث عن البيت السعيد.. وغيرها، كانت قادرة بأن تجعل الدانة تتجول ببصرها في الحقول والبساتين، وأن تسافر إلى أنحاء العالم عبر أثيرها الإذاعي الخاص. أما الدانة الموسيقية فلم تكن أقل حظا في الرواية من دانة الأنثى فالدانتان تشكل نسيجا واحدا للفتاة التي أثبتت أنها تملك على جانب البصيرة البصر بطريقتها الخاصة.. فلم يكن مشروع المخلل إلا بداية لمعادلة أنثى ضريرة، لكنها استطاعت أن تذهل المبصرات، وأن تثير دهشة الحفل، وأن توقف الطقاقات، وأن تفرض عليهن أهازيج مختلفة في ذلك المساء، الذي رغم ثقله ورغم تفجر المشاعر تجاه ردود أفعال الحاضرات التي تحسها الدانة ببصيرتها، وتراها بطريقتها الخاصة، إلا أنها لم تكن تحمل من ردود الافعال سوى أقل القليل من ردة فعلها تجاه سؤال والدها عن رغبتها في الزواج.. بعد أيام ومع انتشار خبر إجادتي العزف على الكمان.. جاءت أم مبارك صاحبة فرقة شعبية، تطلب من والدتي أن تسمح لي أن أشارك الفرقة بالعزف معها في الأفراح، ولها نسبة من النقطة مع مبلغ متفق عليه.. دهشت والدتي وهي تسمع هذه الدعوة من أم مبارك ، وقالت لها: ما بقي شيء! بنت الحمايل تعزف في العرس؟!هذا مستحيل يا أم مبارك، والله لولا إنك في بيتي ولك الكرامة والتقدير لكان ردي شيئا آخر.. وضع المغلوث من غرفة البطلة معملا لأفكارها، وبيئة خاصة لأن تنمو في أفكار عازفته.. وأحال جدارن تلك الغرفة على شرفات تبصر بها الدانة كلما تريد، ومتى أرادت عبر (بساط الأثير) فعن تلك الغرفة تقول الدانة: في غرفتي أطلق العنان للتفكير في مختلف جوانب الحياة.. في غرفتي أشعر بأن هناك مساحة كبيرة أتحرك فيها.. استطاع السارد أن يحرك بالعزف على الكمان، العديد من الأفكار القابعة في تلك المنازل المجاورة، وأن يجعل رحلة الضريرة مع العزف متجاوزا لكل أبعاد الأعراف والتقاليد الاجتماعية، وأن يتجاوز حدود المادة - النقطة - إلى عزف ثنائي في العلاقات المختلفة.. إلا أن هذا العزف يتحول إلى علاقة مختلفة عندما تتحقق المعادلة (العزف / العلاقة) و(الكمان / الجسد) ليظل العزف مستمرا على أوتار الحياة الزوجية بين مقامي الزوجية والعشق.