لم يعد من المبكر الحديث عن موسم الترشيحات والجوائز وأهم الأفلام والأسماء التي استطاعت أن تخطف الأضواء وتنال الإعجاب خلال سنة 2008، ويطالعنا اسم ديفيد فينشر في المقدمة كمخرج لفيلم (الحالة الغريبة لبنجامين باتون - The Curious Case of Benjamin Button) الذي ترشح لخمس جوائز في الغولدن غلوب كأفضل فيلم وإخراج وسيناريو وموسيقى، كما ترشح النجم براد بيت لجائزة أفضل ممثل عن دوره في هذا الفيلم. والمفارقة هنا أن هذا الترشيح هو الإعتراف الأول بالمخرج ديفيد فينشر من قبل الغولدن غلوب، ثاني أهم جائزة في هوليوود بعد جائزة الأكاديمية (الأوسكار) التي هي بدورها لم يسبق لها أن رشحت فينشر، ولكن هذه السنة أصبح أمر ترشيحه مؤكداً بعد الأصداء الواسعة والمعجبة بفيلمه الجديد. حكاية ديفيد فينشر مع هوليوود قد تبدو غريبة، لكن ليست بغرابة حالة بنجامين باتون، بطل فيلمه الجديد، فهو قد عرف أول الأمر كمخرج إعلانات تجارية وفيديو كليب للعديد من نجوم الغناء مثل مادونا وجورج مايكل وباولا عبدول وغيرهم، ثم إن دخوله إلى السينما جاء من بوابة فيلم الخيال العلمي الشهير (الغريب - Alien 3) في جزئه الثالث عام 1992، الذي حقق فشلاً ذريعاً، وكان كفيلاً بوأد مستقبله السينمائي منذ بدايته، وللأبد. ولكن مع حلول عام 1995تبدل الحال وانقلب رأساً على عقب بعد عرض فيلم الجريمة السوداوي الشهير (سبعة - Seven) مع مورغان فريمان وبراد بيت، الذي ستربطه صداقة قوية وخاصة مع فينشر منذ هذا الفيلم وإلى الآن، ويحكي الفيلم قصة قاتل تسلسلي مهووس بتنفيذ جرائم لها أبعاد دينية وفلسفية، وتتعلق بالخطايا السبع المذكورة في الأنجيل. كان الفيلم في سنة عرضه صادماً وعنيفاً للجمهور، ولكن مع هذا فقد استقبله هذا الجمهور والنقاد بحفاوة كبيرة جعلت من براد بيت نجم شباك تذاكر من جهة، وجعلت من ديفيد فينشر مخرجاً ذا أسلوب خاص، وصار يحلو للبعض المقارنة بينه وبين سيد الإثارة والتشويق الفريد هيتشكوك. منذ الآن لن يتعثر ديفيد فينشر. ولو حاولنا أن نعثر له على فيلم ليس ذا شأن فلن نجد، لأنه سيكون مخرج الأفلام المتميزة دائماً بموضوعاتها والمبهرة بصورتها، وسيحافظ على لقب أنجح المخرجين الأمريكيين. وفي عام 1997قدم مع الممثل المخضرم مايكل دوغلاس وشون بن أحد اكثر الأفلام إثارة وغموضاً بعنوان (اللعبة - The Game) الذي يتناول قصة رجل أعمال ثري تحصل له أحداث ومواقف غريبة، ومن خلال هذا الفيلم يؤكد فينشر على تميز عدسته القاتمة وأجوائه السوداوية والظلامية، وتركيزه على الأبعاد النفسية السيئة التي يعيشها أبطال أفلامه. ولعل الذروة وصلت مع بطل فيلمه التالي (نادي القتال - Fight Club) عام 1999والذي لعب دوره ببراعة الممثل إدوارد نورتن، هذا البطل الذي يعيش حياة لا هدف منها، فيقرر الإلتحاق بنادي القتال الذي يتزعمه شخص يدعى تايلور داردن (يؤدي دوره الممثل براد بيت)، وهذا الفيلم مقتبس من رواية تحمل نفس الاسم من توقيع الكاتب الأمريكي تشاك بولانيك. وفي هذا الإطار من أجواء الإثارة والتشويق يأتي فيلم آخر بعنوان (غرفة الهلع - Panic Room) عام 2002مع الممثلة جودي فوستر الذي يحكي قصة أم تشتري منزلاً يحوي على غرفة معيشة خاصة مجهزة بكل وسائل الأمان ضد أي تدخل أو اقتحام من قبل المجرمين، وفي هذا الفيلم يقترب ديفيد فينشر من أسلوب هيتشكوك في الإثارة والتشويق أكثر من أي فيلم آخر له. وفي عام 2007خطف ديفيد فينشر الأضواء في مدينة كان الفرنسية، ليس لأن فيلمه المثير (زودياك - Zodiac) مدرج ضمن العروض التجارية، بل لأنه مرشح لجائزة (السعفة الذهبية). طبعاً الفيلم لم يفز، ولكنه أثار الإعجاب لأن فينشر ظهر فيه بشكل جديد لم يألفه جمهوره، إثارة وتشويق، نعم. لكنها لم تكن حابسة للأنفاس كما هو معهود في جميع أفلامه السابقة، استعراض القصة بروية وتأن واهتمام بالتفاصيل، وإخراج أنيق وكلاسيكي هو الخط الجديد الذي سلكه ديفيد فينشر بهذا الفيلم، وأثبت أنه مخرج متجدد، إلى جانب صفة (ناجح) الملازمة له منذ فيلم (سبعة)..