يصعب أن أرثيه.. فكم فيه رأيت وهج الحياة.. ويصعب أن أفقده.. فكم اكتست ملامحه بصلابة قوة البقاء.. صلابة تختلف عن كل الآخرين.. فلم يكن خصماً لأحد ولا متنازعاً مع فئة ولا ماشياً خلف انقياد عرقي أو طائفي.. كان هو عبدالله الجفري.. ومنتهى الثناء، الشخصية مكتملة الحضور والعلاقات.. وافرة الاحترام أن يكون الرجل رمزاً بقدرات ذاته وقد كان هو ذلك الرمز الذي كسب حب واحترام الكثيرين.. عرفت فقيدنا عبر آفاق مختلفة.. كان هو ذلك المخلص لمبادئه غير المتاجر بها.. فحين هجم العراق على الكويت وهددت حدود المملكة الشمالية الشرقية سعدت أنني والزميل هاشم عبده هاشم كنا معه في نفس المهمة دفاعاً عن وطننا ومواطنينا، وعندما انتهت الحرب وعاد الكويتيون إلى أرضهم بادر بعض من كتبوا إلى تجميع مقالاتهم.. كل واحد في كتاب يخصه.. وكانت وزارة الإعلام - كالعادة - جاهزة لتقديم ثمن الكتاب المرحل إلى ملكيتها.. وحدنا الثلاثة دون أن نتحدث مع بعضنا حول ذلك.. وحدنا من رفض التجميع والبيع.. موقف آخر لا حرب فيه ولا إعلام.. ولا مجتمع.. كنا في مطار باريس، قبل أعوام بعيدة، بعد حفل للخطوط السعودية.. داخل المطار بجانب حقائبنا اليدوية يرخي أعناقنا الملل، وفوجئت بدموع تسيل من عيني رومانسي العرب.. اقتربت منه.. سألته.. أشار بيده إلى رجل وسيدة يتعانقان وبين جفني السيدة دمعة تلاحق الأخرى.. سألته.. تعرفهما؟ حرك رأسه نافياً.. وبعد أن تراجع وهج العواطف.. قال: هي إما أخته أو زوجته أو صديقته.. أياً كانت صفتها فلا تذرف الدموع امرأة كاذبة المشاعر.. في بيروت حيث كان يجرى تكريمه قبل عامين فيما أعتقد وفي صالة التكريم وبديلاً من أن يترك بعض الضيوف مقاعدهم كي يختار كان هو من يقوم بين لحظة وأخرى كي يعطي مكانه المتقدم لمن يتبادل معه الاحترام.. كان هو العفيف الذي لم يركض خطوة نحو المال.. والرومانسي الحالم الذي أعلن بقلمه ومشاعره عن كونه الخاص فأورق ما حوله باخضرار الإمتاع.. والنزيه الذي لم تتطاول عليه خصومه أو يستكين لعزلة.. قبل عشرين عاماً تقريباً تحرش به صاحب قلم حاد الطباع والحروف ولأنه خرج عن المسار رجوت عبدالله أن يترفع عن سقطات مثله فاستجاب ومنعت ذاك من الاسترسال.. لو استرسلت في تعداد المواقف وصفات النبل الإنساني في تكوينه وعراقة الأصالة الأخلاقية لاحتجت إلى كل صفحات هذا الملحق.. لكنه.. عبدالله الجفري.. رومانسي العرب..