عندما تقرأ رواية (الوارفة) للروائية أميمة الخميس والصادرة حديثا عن دار المدى. ستصادفك شخصية د. الجوهرة التي تقطع الطريق يوميا منذ عشر سنوات بين غرب الرياض (حي عليشه) وصولا إلى شرقها حيث مستشفى الجيش الذي تعمل به. تلك الطبيبة كانت في طفولتها (ترفض أن يلتقط أحدهم يدها ليسير بها، هي من كانت تصر على أن تتشبث بالكف الكبيرة أو تستعين بالأثاث دون أن تسلم أصابعها الدقيقة لأحد) وعندما كبرت (وجدت أنها لا تستطيع أن تسيطر على كل شيء، ولابد أن تترك شيئاً للصدفة أو العبث أو لربما لنبوءة مؤجلة مع استدارة الهلال). هذا التحول في قناعات (الجوهرة) يمنحنا رؤية كيف أن ارتباكاتها تقودها إلى التعاطي مع الحياة. فعندما تقف أمام بوابة المستشفى وهي ترتدي النقاب الحل المثالي لطبيبة تعيش مناخاً مختلفاً في المستشفى عما تعيشه في حارتها عليشة. تتذكر الجوهرة دوما أنها (هي بنت عليشه، التي لم تقص جديلتها الطويلة التي تربطها خلف شعرها إلا عندما أصبحت في ثالثة طب. الجوهرة تتمنى حينها أن تلتقي بأخصائية العلاج الطبيعي (أدريان) داخل الجناح. (عندما تلتقي بها تشعر بأنها مرت تحت شجرة تفاح، دوما لديها العديد من القصص والحكايات المشغولة بالذكريات عن مكابدة الذات والأنا، ومعارج الروح في نضالها ضد الجسد، وتحويل الإدراك الشخصي للعالم باتجاه إيجابي، دوما لدى أدريان أفكار مشبعة بتوابل الفلسفات الشرقية المطعمة بإرادة القوة الغربية). حتى جدة (أدريان) تختلف تماما عن جدة الجوهرة. جدة أدريان العجيبة: (كان الصباح يبقى على حدود نافذتها لا تأذن له بالدخول إلى غرفة نومها قبل أن تقطع رغيف الخبز الذي دسته تحت مخدتها طوال الليل إلى قطع صغيرة، تلقمها للعصافير والطيور على الشرفة، وحينما تتخطفه الطيور وتغادر تعلم عندها أن كوابيسها التي تشربها الرغيف مضت) جدة الجوهرة عندما عاشت معهم في المنزل لم تفعل ذلك كانت بطقوسها التقليدية عبئاً على الأسرة. ليس لها صباح كصباح جدة أدريان لكنها تتذكر أن جدتها: (اصطحبتها وقتها خلسة عند(ابن عديل) مطوع في الدرعية ليقرأ عليها آيات قرآنية لمدة أسبوع وتذرعت أمام أبيها بأنها لا تنمو سريعا كأختها (هند)، وتستيقظ فزعى في الليل. الجوهرة لا تملك طمأنينة (أدريان) ذاكرتها لا تحمل ما تحمله تلك الأوربية من قصص وحكايات. ليس لديها اليقين بما تفعل. لذا تتشوق لحكايات أدريان الصباحية. الجوهر تملك ذاكرة تنهض على الأخيلة: (أخيلتها (الأيروتيكية) التي دوما ما تباغتها مع قهوة الصباح. (بدأت تتأمل أجساد النساء وخطواتهن وتفاصيل أجسادهن من بعد زواجها الأول، زوجها كان شديد الكلف بالجسد إلى الدرجة التي جعلتها تشعر كأنها شخص كان في غيبوبة عميقة). زوجها السابق طلال.. طلال (الدب) هو أول من بدد حلمها بأن هذه الأخيلة ليس لها امتداد واقعي: (كان محبطا لأنها لم تشبه الصورة، بالحقيقة لم تكن هناك صورة فقد ثرثر لها يوما ما بقصة السلة فقط هي التي بقيت في قاع السلة) ربما هذه الأخيلة التي تتقنها ذاكرة الجوهرة هي امتداد لشيء ما كان يحدث لها في طفولتها: في الخامسة من عمرها بدأت تخبر أمها عن الأضواء التي تراها حول الناس عندما يتحدثون، وفي السابعة أصبحت تلوح بيدها وتهمس بأذن أمها عن أشخاص يطلون من وراء كتفها).. لكن الأمر لم يتطور فقط بقي عند تلك الحدود (واستمرت تومض أيامها بألوان عديدة لهالات الأشخاص، لاحقا تمنت أن تحلم بأسئلة الاختبارات، أو تحلم بزوجها القادم، أو أي من أزواج أخواتها، لكن لا شيء يحدث في أرض المنام، كل الألوان تتبدى في يقظتها. في مرحلة متأخرة أخبرها د. ليبرمان(هذه موهبة نادرة وقدرة متفوقة وأن من الممكن أن تدر عليها الملايين لو وظفتها للجمهور). لكن الجوهرة بكل هذه الهالات لم تكن محظوظة مع الرجل تحديدا. فعندما تتحادث مع زميلتها كريمان بخاري في المستشفى وعن حظوظهن في الزواج تقول كريمان (ياليتني لو تزوجت بس من الثانوي وارتحت، ولكن دحين.. دكتورة ياسلام سلم... والعرسان اختفوا تواروا خلف شماعة الدوام الطويل، والاحتكاك بالرجال، وبعضهم يقول بأن هناك فواحش تمارس في المستشفيات أثناء المناوبات الطويلة. ياستار. كل هذا سكّر سوقنا) وهي بقدر ما تأنس لكريمان ولروحها المرحة (ترفض أن تتشارك مع (كريمان بخاري) نفس المكان عندما تأخذ سيجارة مختلسة مع كوب قهوة تخشى أن تعلق رائحة الدخان بأثوابها). وهي أيضا لديها الفطنة عندما تتعامل مع المرضى. (عندما يكون مريضها رجل تتقدم نحوه بثبات وقوة بصوت عميق لا يخالط نبرته ارتباك، أن كان برفقة أولاده تطلب منه أن يضع مريضه الصغير على مقعد الكشف لتكشف عليها ويغادر هو إلى الخارج، الكثير يتلكأ في الخروج، يقترب منها كثيرا محاولا شرح الأعراض، عندها يجب أن تكون صارمة وصادمة لحد كبير). سارة بنت يحيى التي تزوجها والد الجوهرة بعد وفاة أمها كانت نموذجا مغايرا للأنثى في مخيلتها تقول عنها: (كان ارتطام (سارة بنت يحيي) ببيت (عليشه) يشبه النيزك، سارة من أولئك الذين نبتوا فوق الأرض ليمتهنوا صناعة الفرح، لربما (سارة بنت يحيي) ولدت لتكون مغنية أو راقصة سعيدة تخاطب من حولها بانثيالات الجسد، ولكن قدر شرير جعل منها أنثى مطلقة). الجوهرة لم تكن تمتهن الفرح كسارة بنت يحيى التي تم ضبطها فيما بعد متلبسة بالخيانة. في داخل الجوهرة شيء ما يتمنى أن يشابه سارة بنت يحيى. لكنها لا تستطيع فهي أدمنت حيادها ومهابتها من الأفعال الأنثوية المغامرة. بعد جرم سارة بنت يحيى وهي تغادر منزلهم في عليشة تساءلت الجوهرة (ماذا ستفعل سارة بنت يحي) بحقيبة أشرطة الكاسيت، وسماعات مسجلها الضخمة وهمساتها المحمومة في الهاتف، هي من فرع البشرية الذي يصنع المهرجانات) لكن الجوهرة استطاعت صناعة مهرجانات سرية في أخيلتها وغامرت مع الطبيب الإعرابي. بل أنها ربما وصلت إلى تبني رؤيته للخطايا وأنها في مقام اللمم. فعندما طلب مواعدتها رفضت بخوف قال لها الطبيب الأعرابي: (أن الله لا يحاسبنا على اللمم، قال الله تعالى (الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم) (فلعل هذا يقع في مقام اللمم). مهرجانها مع الطبيب الأعرابي كان قصيرا. لكنه يجب أن يكون كذلك. فالتعاطي مع رجل بحجم دهشته محبب لأخليتها ولكن تناقضاته لا تجعل ذلك المهرجان العاطفي السري يستمر (تقرأ له بعضاً من أبيات بدر بن عبدالمحسن... لو حبت النجمة قمر طاحت عل صدره سنا..... - قال لها: طاحت على صدره؟! همست: ليتك تسمعها مغناة من طلال المداح، شجية ومليئة باللواعج. قال بصوت عميق: أعوذ بالله لا أسمع مزامير الشيطان. أسمع الغناء السامري والأهازيج والعرضة على قرع الطبول... ولكن المعازف والمزامير عليها فتوى تحريم). كانت الجوهرة قد غامرت إلى حد ما مع (أحمد شبقلي) طبيب تدريب الجراحة. والذي كان يمثل لها زوجا محتملا لكنه لم يكن هو يتبنى هذا الاحتمال(كانت فقط تحاول أن تتقن عرضا تبدو فيه مشروعا خرافيا لزوجة مثالية، وضعها الرحمن بين يديه على الهاتف ولامناص من الارتباط، لأنها هبة سماوية). ابتسمت الجوهرة ذات هاجس وهي تقول: (كيف تمادت مع (احمد شبقلي). لم يكن به شيء مميز. سوى أن شخصيته تشبه مقدمة سيارة ضخمة ترتاد جميع الأمكنة الوعرة بجسارة، وأحيانا تقترب من الوقاحة). ذلك الطبيب كان ينفذ إلى داخلها من تلك المداعبات الكلامية. كأنه طريقته تلك هي حيلته في تحريضها على المغامرة معه يقول لها (اشبك كنت تبصي لي في الصباح عند الديسك وأنت مبلمة...؟ أنتم الشروق شكلكم يخوفني، زي البعبع وأنتي مغطية وجهك ما يبان إلا عيونك). عندما بدأ يرفض أن يعيد لها صورها، يراوغ ويصر على أن تأتي هي لشقته لتأخذها فهو لن يغامر بإحضارها للمستشفى. استعانت بعبيد. عبيد تلك الشخصية الذي يتعشقها سراً. وهي تدري بذلك العشق ولكنها تعرف كيف تجعل عبيد يضبط أحلامه ولا يتجاوز في عشقه سوى أن تكون بالنسبة له.. المرأة التي يستر بأن يتفانى في خدمتها. استطاع عبيد أن ينفذ مهمته مع الطبيب الشبقلي ويعيد لها الصور وكذلك في مرة أخرى استطاع أن ينشأ لها خطا هاتفيا سريا تستطيع أن تتحدث براحة بال في محادثتها المسائية دون أن تقع في الخطأ الذي وقعت فيه سارة بنت يحيى. الجوهرة عندما ذهبت إلى كندا والتقت بالطبيب ليبرمان لم تكن وجلة وهي تتعرف على أنه يهودي. عندما كشف لها ديانته ظنها سترتاع وستهرب. لكنه لا يدري بأن للجوهرة فضولها وغرامها بالخطايا الصغيرة جعلها تواعده وتحادثه تتناسى يهوديته. حسمت أمر ارتباكها معه. وتعاطت معه على أن رجل يشدها في جانب ما. في رواية الوارفة منحت أميمة الخميس الطبيبة الجوهرة بطلة الرواية خاصية الاستحواذ على كل السرد. وذاكرة (الجوهرة) هي من تستدعي الشخوص وتلّون التفاصيل. ونجحت في أن تجعل بطلة روايتها تبوح بهواجسها وخيباتها دون وجل.. دون تجميل لتلك الشخصية. بل نقول إنها الرواية الأكثر جرأة على مستوى الرواية المحلية التي تعري الذات الأنثوية. فالساردة توغلت في عالم الحريم بدون أن تترك للجوهرة أن تسرد بإحساس التشكي أو المظلومية. بل منحتها فرصة التداعي المحايد مع كل الشخوص في النص. رواية الوارفة لم تقدم أزمة امرأة تعمل طبيبة وتعيش خيبتها مع الرجل. ولكنها قدمت تداعيات امرأة برجوازية تتقن السرد المبهج. أميمة الخميس تجاوزت روايتها الأولى (البحريات) التي أقنعت الأغلبية بعمقها الفني. وقدمت في رواية (الوارفة) لفتة فنية متقدمة. تجعلنا نفاخر سرديا بأن لدينا روائية اسمها أميمة الخميس.