محافظ سراة عبيدة يكرم المشاركين والمشاركات ب أجاويد2    وزير الاقتصاد والتخطيط يجتمع مع وفد ألماني لمناقشة تعزيز التعاون المشترك في مختلف القطاعات    السعودية.. بلغة «نحن» !    أسوأ أداء شهري.. «بيتكوين» تهبط إلى ما دون 58 ألف دولار    اَلسِّيَاسَاتُ اَلتَّعْلِيمِيَّةُ.. إِعَادَةُ اَلنَّظَرِ وَأَهَمِّيَّةُ اَلتَّطْوِيرِ    هذا هو شكل القرش قبل 93 مليون سنة !    رئيس الوزراء الباكستاني يثمِّن علاقات بلاده مع المملكة    سعود عبدالحميد «تخصص جديد» في شباك العميد    الهلال يفرض سطوته على الاتحاد    قودين يترك «الفرسان»    حظر استخدام الحيوانات المهددة بالانقراض في التجارب    متحدث التعليم ل«عكاظ»: علّقنا الدراسة.. «الحساب» ينفي !    أشعة الشمس في بريطانيا خضراء.. ما القصة ؟    إيقاف 166 في 7 وزارات تورطوا بتهم فساد    جميل ولكن..    السعودية تتموضع على قمة مسابقات الأولمبياد العلمية ب 19 ميدالية منذ 2020    أمي السبعينية في ذكرى ميلادها    هكذا تكون التربية    ما أصبر هؤلاء    «العيسى»: بيان «كبار العلماء» يعالج سلوكيات فردية مؤسفة    زيادة لياقة القلب.. تقلل خطر الوفاة    «المظهر.. التزامات العمل.. مستقبل الأسرة والوزن» أكثر مجالات القلق    «عندي أَرَق» يا دكتور !    الشرقية تشهد انطلاق الأدوار النهائية للدوري الممتاز لكرة قدم الصالات    لاعب النصر "أليكس": النهائي صعب .. لكننا نملك لاعبين بجودة عالية    القيادة تعزي رئيس الإمارات في وفاة الشيخ طحنون بن محمد آل نهيان    خالد بن سلمان: «هيئة الجيومكانية» حققت الريادة    وزير التعليم في مجلس الشورى.. الأربعاء    الاقتصاد الوطني يشهد نمواً متسارعاً رغم المتغيرات العالمية    33 مليار ريال مصروفات المنافع التأمينية    استشهاد ستة فلسطينيين في غارات إسرائيلية على وسط قطاع غزة    إطلاق مبادرة لرعاية المواهب الشابة وتعزيز صناعة السينما المحلية    الهلال يواجه النصر والاتحاد يلاقي أُحد في المدينة    الإبراهيم يبحث مع المبعوث الخاص الأمريكي لشؤون الأمن الغذائي العالمي تحسين النظم الغذائية والأمن الغذائي عالميًا    الحزم يواجه الأخدود.. والفتح يلتقي الرياض.. والأهلي يستقبل ضمك    النصر يضرب موعداً مع الهلال في نهائي أغلى الكؤوس    «سلمان للإغاثة» ينتزع 797 لغماً عبر مشروع «مسام» في اليمن خلال أسبوع    وزير الصحة يلتقي المرشحة لمنصب المديرة العامة للمنظمة العالمية للصحة الحيوانيّة    اطلع على المهام الأمنية والإنسانية.. نائب أمير مكة المكرمة يزور مركز العمليات الموحد    تعزيز الصداقة البرلمانية السعودية – التركية    إنستغرام تشعل المنافسة ب «الورقة الصغيرة»    العثور على قطة في طرد ل«أمازون»    تحت رعاية الأمير عبدالعزيز بن سعود.. حرس الحدود يدشن بوابة" زاول"    الفريق اليحيى يتفقد جوازات مطار نيوم    أمير الشرقية يثمن جهود «سند»    بمناسبة حصولها على جائزة "بروجكت".. محافظ جدة يشيد ببرامج جامعة الملك عبدالعزيز    أشاد بدعم القيادة للتكافل والسلام.. أمير نجران يلتقي وفد الهلال الأحمر و"عطايا الخير"    أغلفة الكتب الخضراء الأثرية.. قاتلة    مختصون: التوازن بين الضغوط والرفاهية يجنب«الاحتراق الوظيفي»    الجوائز الثقافية.. ناصية الحلم ورافعة الإبداع    مفوض الإفتاء بالمدينة يحذر من «التعصب»    أمن الدولة: الأوطان تُسلب بخطابات الخديعة والمكر    مناقشة بدائل العقوبات السالبة للحرية    فرسان تبتهج بالحريد    التوسع في مدن التعلم ومحو الأميات    نائب أمير مكة يقف على غرفة المتابعة الأمنية لمحافظات المنطقة والمشاعر    سمو محافظ الخرج يكرم المعلمة الدليمي بمناسبة فوزها بجائزة الأمير فيصل بن بندر للتميز والإبداع في دورتها الثانية 1445ه    وزير الدفاع يرعى حفل تخريج الدفعة "37 بحرية"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أورهان باموك: حقيبة أبي 2/1

قبل وفاته بعامين أعطاني أبي حقيبة صغيرة مملوءة بكتاباته، مخطوطاته ويومياته، وعلى طريقته المعتادة في المزاح والسخرية أخبرني أنه يريدني أن أقرأها بعد رحيله، وهو يقصد موته.
"الق نظرة فقط"، قالها وعليه مسحة من الخجل. "انظر إن كان في داخلها ما يمكنك استعماله. ربما استطعت بعد رحيلي أن تصنع مختارات وتنشرها".
كنا في مكتبي، تحيط بنا الكتب. كان أبي يبحث عن مكان يضع فيه الحقيبة، يتردد جيئة وذهاباً مثل رجل يود التخلص من عبء يؤلمه. وفي النهاية وضعها بهدوء في زاوية متوارية. كانت لحظة مخجلة لم ينسها أي منا أبداً، ولكن ما إن مرت وعدنا إلى أدوارنا المعتادة، ننظر إلى الحياة دونما اكتراث، تتلبسنا شخوصنا بما تنطوي عليه من مزاح وسخرية فنسترخي. تحدثنا كما كنا نتحدث دائماً، عن تفاصيل الحياة اليومية وعن مشاكل تركيا السياسية التي لا تنتهي، وعن مغامرات أبي التجارية الفاشلة تقريباً، دون أن نشعر بالأسى لذلك.
أتذكر أنه بعد أن توفي والدي، قضيت عدة أيام أمر إلى جانب الحقيبة، أجيئ وأذهب دون أن ألمسها. كانت الحقيبة الجلدية السوداء بزواياها المدببة مألوفة لدي. كان والدي يأخذها معه في رحلاته القصيرة وأحياناً يستعملها لحمل الأوراق المهمة حين يذهب إلى عمله. تذكرت أنني في طفولتي كنت عندما يأتي أبي إلى البيت من رحلة أفتح الحقيبة وأعيث في أشيائه مستمتعاً برائحة الكولونيا والبلاد الغريبة. كانت الحقيبة صديقاً مألوفاً استعيد معه وبقوة طفولتي وماضي. ولكنني لم أعد قادراً على لمسها. لماذا؟ كان ذلك دون شك يعود لما لمحتوياتها من ثقل غامض.
سأتحدث الآن عما يعنيه ذلك الثقل. إنه ما يخلقه شخص حين يغلق على نفسه باب غرفة، حين يجلس إلى طاولة منزوياً في ركن ليعبر عن أفكاره - ذلك هو معنى الأدب.
حين لمست حقيبة والدي، لم أستطع مع ذلك أن أحمل نفسي على فتحها، ولكني كنت أعرف ماذا كان بداخل تلك اليوميات. كنت أرى أبي يكتب أشياء في بعضها. لم تكن تلك هي المرة الأولى التي أسمع فيها عن المحتويات الثقيلة لما تحتويه الحقيبة. كانت لأبي مكتبة كبيرة في شبابه في أربعينات القرن الماضي. كان يريد أن يكون شاعراً اسطنبولياً، وكان قد ترجم فاليري إلى التركية، لكنه لم يرد أن يعيش ذلك النوع من الحياة الذي توفره كتابة الشعر في بلد فقير يقل فيه القراء. كان والد والدي - جدي - رجل أعمال غني، وقد نعم أبي بحياة مريحة في طفولته وشبابه ولم يرد أن يعاني من أجل الأدب، من أجل الكتابة. أحب الحياة بكل جمالها - وكنت أفهم ذلك.
كان أول الأسباب التي أبعدتني عن محتويات الحقيبة هو بالطبع خوفي من ألا أعجب بما سأقرأ. ولأن أبي كان يدرك ذلك فقد احتاط للأمر بالتظاهر بأنه لم يأخذ تلك المحتويات بجدية. بعد أن عملت في مجال الكتابة مدة خمسة وعشرين عاماً كان يؤلمني أن أرى ذلك. ولكني لم أرد أن أغضب من أبي لأنه لم يأخذ الأدب بجدية كافية... كان خوفي الحقيقي، الشيء الحاسم الذي لم أكن أود أن أعرفه أو أكتشفه، كان احتمال أن يكون أبي كاتباً جيداً. لم أستطع فتح حقيبة أبي لأني كنت أخشى ذلك. بل أسوأ من ذلك، لم أستطع أن أعترف بذلك الخوف بيني وبين نفسي. فلو تحقق خوفي وخرج أدب عظيم من حقيبة أبي، فإنه كان لزاماً علي أن أعترف أنه داخل أبي كان يكمن رجل مختلف تماماً. وكان ذلك احتمالاً مرعباً، لأنني حتى مع تقدمي في العمر كنت أريد لأبي أن يبقى فقط أبي - وليس كاتباً.
الكاتب هو ذلك الذي يمضي سنوات يحاول فيها بتؤدة أن يكتشف الكائن الآخر داخله، والعالم الذي يمنحه هويته: حين أتحدث عن الكتابة، فإن أول ما يخطر ببالي ليس رواية، أو قصيدة، أو تقاليد أدبية، وإنما شخص يغلق على نفسه الباب في غرفة ويجلس إلى طاولة، ويحاول، وحده، أن ينظر إلى الداخل. وسط تلك الظلال يبني ذلك الشخص عالماً جديداً بالكلمات. ذلك الرجل - أو تلك المرأة - قد يستعمل آلة كاتبة، قد يستفيد من سهولة الحاسب، أو أن يكتب بقلم على ورقة، كما عملت على مدى ثلاثين عاماً. وهو إذ يكتب قد يشرب شاياً أو قهوة أو يدخن السجائر. بين الحين والآخر قد ينهض من طاولته لينظر عبر النافذة، ليرى الأطفال يلعبون في الشارع، ويرى، إن كان محظوظاً، أشجاراً ومنظراً جميلاً، أو أن ينظر إلى حائط أسود. يمكنه أن يكتب قصائد، مسرحيات، أو روايات، كما أفعل. كل هذه الاختلافات تأتي بعد الخطوة الحاسمة المتمثلة بالجلوس إلى الطاولة والنظر بتأنٍ إلى الداخل. أن يكتب المرء هو أن يحول هذه النظرة الجوانية إلى كلمات، أن يدرس العالم الذي يمضي إليه ذلك الشخص حين يخلو إلى نفسه، وأن يفعل ذلك بتأنٍ، بإصرار، وباستمتاع. حين أجلس إلى طاولتي، لأيام، لأشهر، لسنوات، وببطء أضيف كلمات إلى الصفحة الخالية، أشعر كما لو كنت أخلق عالماً جديداً، كما لو كنت آتي إلى الوجود بذلك الشخص الآخر الذي يسكن داخلي، بنفس الطريقة التي يقوم فيها أحد ببناء جسر أو قبة، حجراً حجراً. الحجارة التي نستخدمها نحن الكتاب هي الكلمات. وحين نمسك بها بيدينا، نتحسس الطرق التي تتصل كل واحدة منها بالأخرى، ننظر إليها أحياناً من بعيد، وأحياناً نكاد نربت عليها بأصابعنا وبأطراف أقلامنا، نزنها، ننظر إليها من كل الجهات، سنة بعد أخرى، بصبر وأمل، فإننا نخلق عوالم جديدة.
إن سر الكاتب ليس الإلهام - لأنه ليس من الواضح أبداً من أين يأتي - وإنما هو عناده، صبره. المثل التركي اللطيف - أن تحفر بئراً بإبرة - يبدو لي أنه قيل والكتّاب في الذهن. في الحكايات القديمة يعجبني صبر فرحات الذي يحفر عبرالجبال بحثاً عن حبيبته - وأتفهم ذلك أيضاً. في روايتي "اسمي أحمر"، حين كتبت عن فناني المنمنمات الفرس الذين رسموا الحصان نفسه بالشغف نفسه لعدة أعوام، يتذكرون كل لمسة، لكي يعيدوا خلق ذلك الحصان الجميل حتى مع أن أعينهم مغلقة، كنت أعلم أنني أتحدث عن مهنة الكتابة، وعن حياتي. فلو روى كل كاتب قصته - رواها ببطء، وكما لو كانت قصة أناس آخرين - لو أنه شعر بقوة القصة تعلو داخله، لو أنه جلس إلى طاولة وبصبر منح نفسه لفنه - لهذه الحرفة - لأدرك أنه لم يكن ليفعل ذلك لولم يكن يدفعه أمل منذ البدء. ملك الإلهام (الذي يزور البعض أحياناً ويندر أن يزور آخرين) يفضل من لديه أمل وثقة، وما يحدث هو أنه حين يكون الكاتب أشد ما يكون وحدة، حين يهيمن عليه الشك بجدوى محاولاته، أحلامه، وقيمة ما يكتب - حين يشعر أن قصته ليست سوى قصته - في تلك اللحظات يأتي الملك ليكشف له القصص، والصور والأحلام التي ستبين العالم الذي يود أن يبنيه. حين أعود بتفكيري إلى الكتب التي كرست لها حياتي بأكملها، أجدني أكثر اندهاشاً لتلك اللحظات التي شعرت فيها بأن الجمل والأحلام والصفحات التي جعلتني في قمة السعادة لم تأت من مخيلتي - أن قوة أخرى وجدتني وبكل كرم منحتني إياها.
كنت أخشى فتح حقيبة أبي وقراءة يومياته لأني أدرك أنه لن يتقبل الصعوبات التي عانيتها، إنه لم يكن يحب العزلة، وإنما أحب الاختلاط بالأصدقاء وبالجماهير، وبالصالونات، والنكت والرفقة. لكني في ما بعد نظرت للأمر من زاوية أخرى. هذه الأفكار، هذه الأحلام حول الاعتزال والصبر، كانت تحيزات استقيتها من حياتي الشخصية ومن تجاربي بوصفي كاتباً. كان هناك الكثير من الكتاب المتميزين الذين كتبوا وهم محاطون بالناس وبالعائلة، كتبوا وحولهم ضجيج الرفاق والأحاديث الممتعة. بالإضافة إلى ذلك كان أبي، حين كنا صغاراً، يشعر بالملل من الحياة العائلية فيتركنا إلى باريس حيث يجلس - مثل كثير من الكتاب - في غرفة فندقه يعبئ يومياته. وكنت أعرف أيضاً أن بعض تلك اليوميات نفسها كانت في تلك الحقيبة، لأنه خلال السنوات التي سبقت إحضاره الحقيبة لي، كان قد بدأ يحدثني عن تلك الفترة من حياته. كان يتحدث عن تلك السنوات ومنها سنوات طفولتي، لكنه لم يرد الإشارة إلى نقاط ضعفه، إلى أحلامه بأن يكون كاتباً، أو الأسئلة المتعلقة بالهوية التي أقلقته في غرفته بالفندق. بدلاً من ذلك كان يحدثني عن كل تلك الأوقات التي رأى فيها سارتر على طرقات باريس، عن الكتب التي قرأ والأفلام التي شاهد، كل ذلك بنشوة الصدق التي تنبعث من شخص يروي أخباراً مهمة. وحين صرت كاتباً، لم أنس أن ذلك كان يعود جزئياً إلى حقيقة أنه كان لي أب يتحدث عن عالم الكتّاب أكثر بكثير من حديثه عن الباشوات والقادة الدينيين الكبار. لذا فلربما توجب علي أن أقرأ يوميات أبي وكل هذا في ذهني، مستحضراً كم كنت مديناً لمكتبته الكبيرة. كان علي أن أتذكر أنه حين كان يعيش معنا، فإنه كان مثلي يستمتع بعزلته مع كتبه وأفكاره - دون أن يعير اهتماماً كبيراً للمستوى الأدبي لكتابته.
ولكني حين مددت بصري إلى الحقيبة التي ورثني والدي، شعرت أيضاً بأن هذا كان الشيء الوحيد الذي لم أكن قادراً على فعله. كان والدي يحب أن يتمدد على الأريكة مقابلاً كتبه، واضعاً الكتاب أو المجلة جانباً ليرحل في حلم ثم يغرق في أفكاره لأطول مدة ممكنة. في تلك اللحظات حين بدت لي على وجهه تعابير تختلف كثيراً عن تلك التي كان تشيع في وجهه أثناء المزاح والمداعبة والمناكفات العائلية - حين بدت لي المؤشرات الأولى للتأمل الداخلي - أدركت، كما كنت أدرك أثناء طفولتي وصباي، وبخوف أنه كان قلقاً. والآن، بعد مرور كل تلك الأعوام، أدرك أن ذلك القلق هو السمة الأساسية التي تجعل الإنسان كاتباً. فلكي يصبح المرء كاتباً فإن الصبر والكدح ليسا كافيين: لا بد لنا أولاً أن نشعر بالاضطرار إلى ترك الاحتشادات البشرية، والرفقة، ومشاغل الحياة اليومية العادية، ونغلق على أنفسنا باب الغرفة. نريد الصبر والأمل لكي نستطيع خلق عالم عميق في كتابتنا. ولكن رغبة المرء في الانغلاق داخل غرفة هي ما يدفعه للعمل. النموذج الأول للكاتب المستقل هنا - الكاتب الذي يقرأ كتبه بإمعان وتفكر والذي، بالاستماع إلى صوته الداخلي، يجادل كلمات غيره، الكاتب الذي، بدخوله في حوار مع كتبه، يطور افكاره وعالمه - كان بكل تأكيد مونتين الذي عاش في مطالع الأدب الحديث. لقد كان مونتين كاتباً يعود إليه أبي في كثير من الأحيان ويوصيني بقراءته. وأود أن أنظر إلى نفسي منتمياً إلى ذلك التقليد الذي ينتمي إليه كتاب - من كل أنحاء العالم، من الشرق أو الغرب - يعزلون أنفسهم وينغلقون على كتبهم في غرفة. إن بداية الأدب الحقيقي هي رجل يغلق على نفسه الباب في غرفة مع كتبه.
ولكن حالما نغلق على أنفسنا الباب، فإننا نكتشف أننا لسنا وحدنا كما كنا نظن. نحن في حضرة كلمات أولئك الذين سبقونا، وقصص الآخرين، وكتب الآخرين، ذلك الذي نسميه الموروث. إنني أعتقد أن الأدب هو أكثر الكنوز التي جمعتها الإنسانية أهمية في سعيها لفهم نفسها. إن المجتمعات، والقبائل والشعوب تزداد ذكاءً وثراءً وتصير أكثر تقدماً كلما أصغت إلى الكلمات القلقة لمؤلفيها، في حين أن حرق الكتب وإهانة الكتّاب هما، كما نعلم جميعاً، مؤشران على أن أزمنة من الظلام والجهل قد حلت. غير أن الأدب لم يكن مجرد شاغل قومي. الكاتب الذي يعزل نفسه في غرفة ويمضي قبل ذلك في رحلة داخل نفسه سيكتشف، عبر السنين، قاعدة الأدب الخالدة: لابد له أن يمتلك المهارة الفنية التي تمكنه من رواية قصصه كما لو كانت قصص الآخرين، وأن يروي قصص الآخرين كما لو كانت قصصه هو، لأن ذلك هو الأدب. بيد أننا بحاجة أولاً إلى الارتحال عبر قصص الآخرين وكتبهم.
كان لأبي مكتبة جيدة - بلغ مجموع مجلداتها 0051- وكانت أكثر من كافية لكاتب. ولا أظنني كنت حين بلغت الثانية والعشرين قد قرأتها كلها، ولكني كنت على ألفة بكل منها - كنت أعرف ما الذي كان مهماً، وما الذي كان خفيفاً وسهلاً للقراءة، وما الذي كان من الروائع، وما الذي كان أساسياً لأي قدر من التثقف، وما الذي كان تأريخاً محلياً مسلياً ولكنه قابل للنسيان، وكنت أعرف أي مؤلفين فرنسيين كان أبي شديد الإعجاب بهم. كنت أحياناً أنظر إلى هذه المكتبة من بعيد وأتخيل أنني يوماً ما، في منزل آخر، سأبني مكتبتي الخاصة، مكتبة أفضل - أن أبني لنفسي عالماً. حين نظرت إلى مكتبة أبي عن بعد، بدت لي صورة مصغرة عن العالم الحقيقي. ولكن هذا كان العالم كما يبدو من زاويتنا، من أسطنبول. كانت المكتبة دليلاً على ذلك. كان أبي قد بنى مكتبته من رحلاته إلى الخارج، غالباً بكتب من باريس وأمريكا، ولكن أيضاً بكتب اشتراها من وراقين كانوا يبيعون كتباً بلغات أجنبية في الأربعينات والخمسينات ومن بائعي الكتب القدماء والمحدثين في أسطنبول ممن عرفت شخصياً. أما عالمي فمزيج من المحلي - القومي - والغرب. في السبعينات، بدأت أنا أيضاً بداية طموحة إلى حد ما لبناء مكتبتي. لم أكن قد قررت نهائياً أن أصير كاتباً - حسب ما ذكرت في (رواية) "إسطنبول"، وصلت إلى الشعور بأنني في نهاية المطاف لن أكون رساماً، ولكني لم أكن متأكداً في أي طريق ستسير حياتي. في داخلي كان ثمة حب استطلاع لا يهدأ، رغبة متفائلة بالقراءة والتعلم، ولكني في الوقت نفسه كنت أحس أن في حياتي نقصاً بشكلٍ أو بآخر، أنني لن أستطيع العيش مثل الآخرين. جزء من ذلك الإحساس جاء مما شعرت به حين مددت بصري إلى مكتبة والدي - أن أعيش بعيداً عن المركز، كما كنا نحس نحن المقيمين في اسطنبول في تلك الأيام، إحساس المقيمين في الريف. وكان هناك سبب آخر وراء الإحساس بالقلق وبفقدان شيء، ذلك أنني كنت أدرك أنني أعيش في بلد لا يعير أهمية كبيرة لفنانيه - سواء كانوا رسامين أو كتاباً - وأنه لا يمنحهم أي أمل. في السبعينات، حين كنت آخذ المال الذي يمنحني إياه أبي واشتري بكل نهم كتباً مصفرة يعلوها الغبار ومعقوفة زوايا الصفحات فيها من دكاكين الوراقة القديمة بإسطنبول، كنت أتأثر للوضع المؤسي لما آلت إليه تلك المكتبات التي تبيع الكتاب المستعمل - ولأوضاع بائعي الكتب الفقراء بلباسهم الرث وشعرهم الأشعث إذ يضعون حاجياتهم على قارعات الطرق، وفي باحات المساجد، وشقوق الجدران المتهدمة - مثلما كنت آسى لما آلت إليه الكتب التي يبيعون.
أما بشأن موقعي في العالم - في الحياة كما في الأدب، فإن شعوري الأساسي كان أنني لم أكن "في المركز". في مركز العالم كانت هناك حياة أغنى وأكثر إثارة من حياتنا، وكنت، ومعي كل إسطنبول وكل تركيا، خارج ذلك المركز. الآن أشعر أنني أشترك في ذلك الشعور مع معظم سكان العالم. وبالمعنى نفسه كان هناك أدب عالمي ومركزه بعيد جداً عني. في حقيقة الأمر ما كان في ذهني هو أدب الغرب، لا أدب العالم، ونحن الأتراك كنا خارج ذلك الأدب. كانت مكتبة أبي دليلاً على ذلك. في أحد طرفيها كانت كتب اسطنبول - أدبنا، عالمنا المحلي، بكل تفاصيله المحبوبة - وفي الطرف الآخر كانت الكتب من ذلك العالم الغربي الآخر، الذي لم يكن عالمنا يشبهه، والذي سبب لنا غياب الشبه به قلقاً وأملاً في الوقت نفسه. أن نكتب، أن نقرأ، كان يشبه مغادرة عالمٍ للعثور على العزاء في آخرية العالم الآخر، العالم الغريب والمدهش. لقد شعرت بأن أبي كان يقرأ الروايات تخلصاً من حياته وهروباً إلى الغرب - تماماً كما كنت سأفعل فيما بعد. أو أنه بدا لي أن الكتب في تلك الأيام أشياء نلتقطها لنهرب من ثقافتنا التي وجدناها شديدة الفقر. ولكن القراءة لم تكن الأسلوب الوحيد الذي تخلينا من خلاله عن حياتنا في إسطنبول باتجاه الغرب - كانت الكتابة أسلوباً آخر أيضاً. فلكي يملأ أبي يومياته كان عليه أن يسافر إلى باريس، أن يغلق على نفسه غرفته، ليعود بعد ذلك بما كتبه إلى تركيا. حين أرسلت نظراتي إلى حقيبة أبي، بدا لي أن ذلك هو ما سبب انزعاجي. فبعد أن عملت في تلك الغرفة على مدى 52عاماً لكي أبقى كاتباً على قيد الحياة في تركيا، أحزنني أن أرى أبي يخبئ أفكاره العميقة في هذه الحقيبة، أن يتصرف كما لو أن العمل كان ينبغي أن ينجز سراً، بعيداً عن أعين المجتمع، والدولة، والناس. ربما أن هذا كان السبب الرئيس خلف شعوري بالغضب من أبي لأنه لم ينظر إلى الأدب بالجدية التي نظرت بها.
في حقيقة الأمر كنت غاضباً من أبي لأنه لم يعش حياة شبيهة بحياتي، لأنه لم يعش خصماً لحياته، لأنه أمضاها سعيداً ضاحكاً مع أصدقائه وأحبائه. غير أن جانباً مني أدرك أنه لم يكن بإمكاني أن أقول إنني كنت "غاضباً" بقدرما كنت أشعر ب "الغيرة"، وأن الكلمة الثانية أكثر دقة من الأولى، وهذا بدوره جعلني غير مرتاح. يحدث ذلك حين أميل إلى التساؤل بأنفتي وغضبي المعتادين: "ما هي السعادة؟" هل السعادة هي الاعتقاد بأنني عشت حياة عميقة في تلك الغرفة المعزولة؟ أم أن السعادة هي أن تحيا حياة مرتاحة في مجتمع وتؤمن بالأشياء التي يؤمن بها الباقون أو التصرف كما لو كنت تؤمن؟ هل هي السعادة أم نقيضها أن تمضي في الحياة تكتب سراً بينما أنت في ظاهرك تبدو منسجماً مع كل ما حولك؟ ولكن تلك كانت أسئلة صادرة عن مزاج بالغ الحدة. من أين ياترى جاءتني فكرة أن الحياة الطيبة هي السعادة؟ الناس، الصحف، الجميع يتصرف كما لو أن السعادة هي أهم المقاييس. أليس هذا وحده مبرراً كافياً لتبين ما إذا كان العكس هو الصحيح؟ في نهاية المطاف هرب أبي من عائلته عدة مرات - إلى أي حد كنت أعرفه، وإلى أي حد أدركت طبيعة انزعاجه؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.