كل على قَدءره.. هناك أناس يفكرون في الشؤون العظيمة الكبرى، وهناك من لا تتعدى أفكارهم حدود بطونهم. وقد قال المتنبي: "على قدر أهل العزم تأتي العزائم". بعض الناس تضيق به الدنيا طموحاً، وتوثباً، إلى العلى والمعالي.. دائماً رافع الرأس، رامي البصر، نحو البعيد البعيد.. وبعض الناس يركن للخمول، ويغتبط به، ويقبل بالسهل، والهين من العيش.. غايته أن يأكل، ويشرب، ويستمتع، ولا شيء غير ذلك. طموحاته دائماً تحت قدميه، وآماله مرمية وراء ظهره. والطموح والتوّثب نحو العلى مسألة ذاتية يُطبع عليها الانسان منذ ولادته. وعلماء التربية والنفس يستطيعون أن يحددوا بكل سهولة، وبساطة، الشخصية الطموحة من الشخصية المستكينة، الهشة، القنوع، الخانعة، الهاجعة... والشخصية الطموح، هي شخصية قلقة معرضة للزعازع، والنوازل.. وصاحبها ربما يجد لذة في الصراع، والتعارك مع عوائق الحياة.. وكثير من الطامحين كَسّروا حواجز الأيام، وحيطانها، ووصلوا الى غاياتهم بعد عناء، وعرق، وكفاح. وكثير منهم أخفق، وتحطم، وتكسر قبل الوصول.. ولكنه حتى في تكسره وتحطمه قد استشعر تلك اللذة الخفية، التي تنتاب ذوي النزعات القتالية، وهم يسقطون مضرجين في ميدان المعركة. أما ساقطو الهمة، والضعاف، وذوو النزعات المسالمة، فانهم يجدون متعتهم في الكسل، والعيش على الكفاف، والرضا بالمقسوم، والطمأنينة الى الواقع مهما كان نوعه.. ومن ثم فانهم يستسلمون استسلاماً غريزياً لواقعهم، وكأن قدرهم أن يكونوا قطعاناً مستلبة، تقودها الأحداث فتنقاد في استسلام ورضوخ. والأمران طبيعيان في أحوال البشر، وربما أن سنة الحياة، وناموس الكون، يقتضيان الأمرين كي تسير الحياة سيراً تعادلياً، متزناً، متسقاً، غير أن المشكلة هي عندما يختل الواقع، والوضع الطبيعي، فُيدفع غير الطموح الى مكان الزعامة، والقيادة. أو على العكس، أي عندما يوضع القيادي والطموح في موضع الخامل. هنا يبرز الخلل.. وأعتقد أن في الحياة خاملين، ساكنين، جامدين، وضعوا في اماكن متحركة وساخنة، وتحتاج الى حركة، وقيادة، أي تحتاج الى رجال ذوي موهبة نزّاعة إلى الزعامة... غير أن أولئك يلقون كسلهم وخمولهم، وهشاشتهم، وانكسارهم، على المواقع التي وضعوا فيها من غير طموح، ولا توثّب، ولا حب للرقي، ومن ثم فان الأماكن التي يتولونها، يرين عليها كثير من الكسل والإحباط والظلال الكئيب.. وترى العمل فيها روتينياً كئيباً متخلفاً يميل الى البيروقراطية، والتعقيد، وترك الأمور تسير وفق حركة خاملة مشلولة.. الغريب أن بعض هؤلاء الخاملين اذا تسنموا هذه المواقع، تتلبسهم روح الطغيان، والقسوة والصلف الأجوف، لأنهم في قرارة نفوسهم يعلمون أنهم عبروا الطريق الصعب بلا ارادة منهم، ومن ثم فانه لا شيء يمنعهم من أن يمارسوا ذلك الصلف، كغطاء يستر عوارهم وعيبهم، بل ويردم تلك الفجوة الهائلة بين طبعهم الضعيف، والخامل، وبين واقعهم الذي وصلوا اليه دونما طموح او ارادة، وهؤلاء دائماً هم اشد الناس التواءً، وحيرة، وجفاء، أمام المرونة، والتطوير، واستلهام حركة التحديث، ومسايرة الواقع واستيعاب مهام المكان لمعالجة حوائج الناس. عرفت واحداً من هؤلاء الذين جاء بهم هذا الزمن المزري.. فوصل بلا مقدرة، ولا وسائل طموح.. وانما بذلك الحظ المجنف من المحسوبية، فلقيته متتعتعاً متمنعاً.. وأواءً فأفاءً.. يعمل على التعطيل، والتأخير، وتجميد الأمور وعرقلتها.. وجدته شخصية مهزوزة، عاجزة، يريد أن يظهر بشخصية القيادي القادر.. فاذا طبعه يخونه فينكشف عن شخصية العاجز، الواهي، الذي يفتقد حسن الأداء كما يفتقر إلى المروءة والأريحية، في التفاعل مع الآخر، والى همة وحنكة القيادي الماهر. فخرجت من المكان أضرب كفاً بكف وأقول: هذا والله هو الابتلاء.. ويل للمكان، وويل لمصالح الناس من هؤلاء الصغار، القصر، والعجزة، حينما يجلسون على الكراسي التي لم تخلق لهم.