إذا كان الشّعر ديوان العرب ومجمع أخبارهم وخلاصة تجاربهم في الحياة في الماضي، فإنّ الرّواية اليوم هي مجمع الأخبار وفضاء الذّات والمجتمع في آن معاً. فقد تراجع دور الشّعر بعد أن زاحمته أنواع أدبيّة أخرى كثيرة لم تكن معروفة من قبل ومنها الرّواية. وتتعدّد قضايا هذا النّوع الأدبيّ المستحدث في الثّقافة العربيّة وتتنوّع بحسب المناهج والأطروحات النّظريّة التّي يختارها الباحثون لتأمّل الأسئلة التّي تطرحها كتابة الرّواية. وقد شهدت دراسة السّرد بصفة عامّة تطوّراً في كيفيّات التّعامل مع النصّ السّرديّ أيّا كان جنسه (رواية، قصّة، حكاية مثَلِيَّة، نادرة...) وقد كان ذلك التّطوّر نتيجة جهود مستمرّة في البحث التّطبيقيّ والنّظريّ. ومن أخصّ ثمار تلك الجهود البحثيّة ما ظهر مصطلحات وفرضيّات ومداخل لم يعد النقّاد والدّارسون قادرين على النّظر في قضايا الرّواية دونها، ومن هذه المداخل التّي فرضت نفسها المدخل الزّمنيّ. فالسّرد هو الزّمن تجري فيه الأحداث أو الوقائع، فتتحوّل وتتبدّل، ومن تحوّلها وتبدّلها تنشأ سيرورة من التحوّلات المتتالية والحالات الثّابتة والمتغيّرة. وهذا يعني أنّ السّرد في جوهره زمنيّ. ولمّا كان الأمر كذلك فإنّ دراسة الزّمن وكيفيّات بنائه وطرائق التّصرف فيه تعدّ من أهمّ المداخل لتحديد خصوصيّات الرّواية الإنشائيّة بصفة عامّة ولتبيّن السّمات الفارقة بين هذه الرّواية وتلك بصفة خاصّة. والمقصود بالخصوصيّات الإنشائيّة هو القوانين العامّة التّي تحكم كلّ أثر من الآثار الأدبيّة وتحكم الأدب نفسه. فالظّاهرة الأدبيّة ظاهرة معقّدة لها صلات متشابكة بما هو اجتماعيّ واقتصاديّ وتاريخيّ وثقافيّ... ولكنّها في النّهاية ظاهرة لغوية أي هي إبداع قوليّ. وإذا كان هناك مناهج أو مداخل كثيرة تناولت الظّاهرة الأدبيّة من زاوية تاريخيّة أو ثقافيّة أو حاولت ربطها بما هو اقتصاديّ أو اجتماعيّ، فإنّ الدّراسة الإنشائيّة تسعى إلى أن تنظر في الظّاهرة الأدبيّة في ذاتها أي باستقلال نسبيّ عن مؤثّرات خارجة عن قوانين الأدب والخطاب الأدبي الخاصّة به. صحيح أنّ التّفاعل بين الظّواهر حقيقة لا تنكر، بين الظّاهرة الأدبيّة وما يحيط بها من سياقات متنوّعة متعدّدة، ولكن هذا لا يعني أنّ النصّ الأدبيّ ليس له ما يميّزه من حيث هو قول أو من حيث هو إمكان من إمكانات التّركيب المتعدّدة. لذلك فإنّ الإنشائيّة لا تهتمّ بالأثر المفرد في ذاته وإنّما تهتمّ به باعتباره بنية مجرّدة أو تجلّياً لإمكان من إمكانات مجرّدة كثيرة يجري وفقها البناء والتّركيب. وفي هذا السّياق فإنّ الغاية من دراسة الزّمن، مثلاً، في رواية ما لا يُقصد منها الوقوف عند معرفة الطّريقة التّي بُني بها الزّمن في تلك الرّواية فقط، وإنّما الغاية هي تمثّل القانون العامّ لبناء الزّمن وتبيّن ما تشترك فيه تلك الرّواية مع غيرها في إشكالية الزّمن. إن المقاربة الإنشائيّة للزّمن في رواية ما، نظرياً وتطبيقياً تأخذ بأسباب نظريّة تناولت إشكاليّة الزّمن واقترحت فيها من التّصورات ما يمكن أن يكون مساعداً على تمثل الكيفيّات التّي يمكن أن يعتمدها روائيّ في بناء الزّمن داخل روايته، ومحايثة لأنّها تنظر في أثر روائيّ بعينه وتحاول أن تفهم قوانين اشتغاله في ضوء تلك الأسباب النّظريّة والتّصوّرات المجرّدة. قسم العمل في هذا الكتاب إلى فصلين، كان الفصل الأوّل لدراسة البناء الزّمنيّ في الرّواية وللتّقنيات أو الآليّات التّي يتحقّق بها ذاك البناء. ولأنّ تلك الآليّات متعدّدة ومختلفة في مفاهيمها وكيفيّات إجرائها، فقد قسّمت الفصل الأوّل إلى ثلاثة مباحث. وكلّ مبحث يجمع من التّقنيات ما هو متناغم متآلف حتّى نتجنّب الخلط بين المباحث. لذلك تطرقت في المبحث الأوّل: الحذف والتّلخيص والمشهد والوقفة الوصفيّة. فهذه التقنيات كلّها يقاس بها ما يعرف في الدرس السردي بالمدّة. فكلّ حكاية لها مدّتها الواقعيّة أو الافتراضيّة. والرّوائي هو الوحيد الموكول له أن يتصرّف في تلك المدّة في الخطاب. فإذا كان الحدث يستغرق نصف يوم مثلاً فإنّ الرّوائيّ قد يوازي بين زمن الحدث وزمن سرده. وقد لا يوازي فيلخّص في جملة أو جملتين ما حقّه أن يستغرق نصف اليوم ذاك. وقد يحوّل السرد إلى حوار فيجعل زمن الحدث مساوياً لزمن سرده. وقد يعطّل السّرد ويوقف سيرورة الأحداث ليستطرد في التّأمّل والوصف. أمّا المبحث الثّاني فقد جمعت فيه ما يقع تحت مقولة التّرتيب، وهي مقولة زمنيّة كذلك. فالرّوائي، وبطبيعة الحال، ووفق رؤية جماليّة يستجلي مظاهرها وغاياتها، يوقف روايته افتراضيّاً في الحاضر ليتيح له أن يلتفت إلى الماضي فيكون الارتداد أو الاسترجاع، أو يدفعه إلى أن يستشرف ويرى بالبصيرة، ليكون الاستباق وتوقّع ما قد يحدث، فتقوم الأحداث في الخطاب وهي لم تحدث بعد في القصة كما يفترض أنها حدثت. وكان المبحث الثّالث للنّظر في مسألة التّواتر وأنوع القصّ في الرّواية، وهي القصّ المفرد والقصّ المؤلّف والقصّ الإعاديّ. وقد انتهيت إثر القراءة الأولى للرواية إلى قناعة مفادها أنّ المهيمن زمانيّاً في «مرافئ الحبّ السبعة» - الرواية التي كتبها الروائي العراقي المبدع الدكتور علي القاسمي ونشرت في عام 2012م -موضع الدراسة والتحليل هنا، إنّما هو الاسترجاع أو الارتداد. فالماضي يتشكّل في هذه الرّواية باعتباره الأسّ الذّي شُيّدت عليه عمارتها التّي تنوّعت نوافذها فكانت تداعيات حرّة وأحلام يقظة وأطياف ذكريات، وهو ما يعني أنّ الرّوائيّ قد خرج عن توقّعات كثيرة وعن ترتيب للزّمن مألوف. وهذا الخروج هو الذّي أتاح للرّاوي أن يتلاعب بالزّمن على نحو يسّر لنا أن ننعت هذه الرّواية بأنّها من روايات تيّار الوعي التّي يفسح فيها المجال أكثر للتّداعي الحرّ والحلم والتّكرار والارتداد وينتفي فيها التسلسل المنطقيّ- الزّمنيّ للأحداث. بل يفقد فيها الزّمن الواقعيّ قيمته. وكان علينا أن نثبت بالتحليل المدقّق هذه الفرضية الأولى. أيضاً كان هناك حيّز للدّلالات ولما يمكن أن يستخلص من سمات جماليّة من تلك الاختيارات الإنشائيّة التّي عمد إليها الرّوائيّ في روايته. وقد اهتممت بعلاقة الزّمن بغيره من المكوّنات السّرديّة كالأحداث والمكان والشّخصيّات، وللنّظر في الخصائص البنائيّة للزّمن، لتأمّل الزّمن ورؤية الكون، فالبناء الزّمنيّ له جماليّات تشتقّ منه وأنّ جماليّاته تلك هي التّي ترسم التّمايز بين رواية وأخرى.