تفوّقتِ الولايات المتّحدة الأميركيّة على بلدان العالم قاطبةً في إفراد مساحةٍ كبيرة للهجرة والمهاجرين في تكوينها. وكانت النتيجة أنها باتت دولة مؤلفة من عشرات الرّوافد البشريّة ذات الأصول القومية والثقافية والدينية المتعدّدة والمختلفة، وقد انصهرت جميعُها في كيان واحد. هذا النموذج الأمريكي الفريد في سياسة الهجرة الذي يستند على رؤيةٍ واستراتيجيّةِ عملٍ أخذت بها الولايات المتّحدة منذ زمنٍ طويل، تستفيدان من الموارد البشريّة المهاجرة إليها في تعزيز عمليّة بناء الاقتصاد القوميّ من جهة، وفي تعظيم بنيتها السّكانيّة من جهة ثانية. على الرغم من إفراد مساحةٍ كبيرة للهجرة والمهاجرين في الولاياتالمتحدةالأمريكية، إلا أن المتقدمين لطلب الهجرة من خلال القنوات الرسمية يخضعون في الماضي إلى معايير ومتطلبات للحصول على موافقة الدخول إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية والحصول على الجنسية. تلك المعايير والمتطلبات تضمن بحسب المشرعين تحقيق الضبط والتوازن في تدفق المهاجرين، وذلك من أجل ضمان التنوع الاجتماعي العادل، وتحقيق التنمية والتطور الاقتصادي. وفي هذا السياق نستشهد بالمرحلة التاريخية المنحصرة في النصف الأول من بداية التسعينات الميلادية عندما كان الخوف منتشرًا على نطاق واسع من تدفق المهاجرين الأوروبيين إلى حد أن الكونجرس والرئيس الأمريكي ثيودور روزفلت قرراً إنشاء لجنة "ديلينجهام" لتقييم آثار الهجرة على البلاد، وأوصت اللجنة بعد دراسة مستفيضة بأن تتوقف الولاياتالمتحدة عن قبول المهاجرين من أوروبا الشرقية والجنوبية، علاوة على ذلك، يجب على جميع المهاجرين اجتياز اختبار معرفة القراءة والكتابة. في عام 1917 أصدر الكونجرس تحت إدارة ويلسون أول قانون شامل للهجرة، والذي تضمن شرط اختبار معرفة القراءة والكتابة. وفي عام 1924 تم إقرار قانون الأصول الوطنية الذي يضع نظام الحصص على عدد المهاجرين الذين يدخلون الولاياتالمتحدة؛ ذلك القانون أوقف بشكل فعال تدفقات كبيرة من الهجرة الأوروبية وعلى وجه الخصوص المهاجرين اليهود. في العقود الثلاثة الأخيرة لم يعد بالإمكان وضع كلمتي "قانون" و"هجرة" في جملة واحدة مفيدة، وفي هذا الشأن يقول المفكر الأمريكي أستاذ القانون في جامعة هارفرد ذو الأصول الأفريقية توماس سويل: "قوانين الهجرة هي القوانين الوحيدة التي تتم مناقشتها من حيث كيفية مساعدة الأشخاص الذين يخالفونها". وقد أصاب كبد الحقيقة بعد أن وقع ملف الهجرة كغيره من الملفات ضحية للاستقطاب السياسي بين الحزبين في واشنطن! وأصبحت معادلة الضبط والتوازن في التعاطي مع ملف الهجرة من حديث الماضي؛ لتحول هذا الأمر إلى قضية ساخنة في واشنطن، وأحد أهمّ الأدوات السياسية من حيث التمكين والسيطرة، وملف أساسي في الانتخابية الرئاسية، وهذا يعد انحرافًا كبيرًا عن مسار الهجرة والغرض منها! هذا الانحراف فتح الحدود الجغرافية الأمريكية على مصراعيها للهجرة غير الشرعية التي لا تخضع لأي قانون أو معيار، حتى إن داعمي الهجرة الغير شرعية عملوا على إنشاء مناطق في بعض الولاياتالأمريكية تسمى بمدن "الملاذ الآمن" وهي مدن تتحدى القوانين الوطنية من خلال تقديم خدمات وحماية للمقيمين في البلاد بطريقة غير قانونية، وتحد من تعاونها مع جهود الحكومة الوطنية لفرض قانون الهجرة. السؤال الملح بعد هذه الإضاءات السريعة على ملف الهجرة، هو من المستفيد الحقيقي من تجاهل قانون الهجرة وانتشار الهجرة الغير شرعية التي نشاهدها اليوم وكأنها خيل بدون لجام؟ الإجابة عن هذا السؤال في تقديري تتطلب تشخيص واقعين مكاني وتشريعي، يأتيان في شكل سؤالين، الأول في أية الولايات تقع مدن "الملاذ الأمن" التي تحمي المهاجرين الغير شرعيين من قبضة القانون؟ والثاني مَن مِن الحزبين يسعى إلى تعطيل قانون الهجرة وإعاقته وإنفاذ الإجراءات التي تضبط الحدود؟. بالنسبة للتساؤل الأول: يظهر من بيانات الهجرة والجمارك التي نشرها الموقع الإلكتروني التابع لمركز دراسات الهجرة اعتبار الولايات التالية مكانًا لما يسمى مدن "الملاذ الأمن" (كاليفورنيا، كولورادو، كونيتيكت، إلينوي، ماساتشوستس، نيو جيرسي، نيو مكسيكو، نيويورك، أوريغون، يوتا، فيرمونت، واشنطن) جميع الولايات المذكورة خلال العقدين الماضيين تخضع لسيطرة الحزب الديموقراطي ما عدا ولاية يوتا! وهذا باختصار جواب عن السؤال الأول. بالنسبة للتساؤل الثاني: اليوم لم نعد بحاجة إلى الغوص في دهاليز المؤسسة التشريعية والقضائية لإثبات من يقف خلف تعطيل قوانين الهجرة من خلال تخفيف القيود أو حتى إلغائها! فكل ما تحتاجه -عزيزي القارئ- هو مشاهدة ما يحدث في ولاية تكساس التي دخلت في صراع وجود مع الحزب الديموقراطي بقيادة بايدن من أجل حماية حدودها مع دولة المكسيك وكبح قوافل المهاجرين الغير شرعيين من الدخول عبر بوابتها إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية، وفي هذا المقام هددت إدارة بايدن باستخدام الجيش الفيدرالي في حال عدم تجاوب الولايات لطلب واشنطن بإزالة الحواجز الشائكة من أمام المهاجرين الشرعيين. موقف ولاية تكساس يأتي بعد أن وصلت معدلات الهجرة الغير شرعية خلال إدارة بايدن لأرقام قياسية غير مسبوقة. ويكفي أن تعلم -عزيزي القارئ- بأن أحد بنود مشروع الهجرة الذي قدمه الرئيس بايدن للكونجرس ينص على ضرورة وقف بناء الجدار الحدودي مع المكسيك. ويطيب أن نستشهد في هذا السياق بما قاله السيد توماس دي هومان، القائم بأعمال المدير المتقاعد لإدارة الهجرة والجمارك الأمريكية (ICE): "الرئيس بايدن هو أول رئيس على الإطلاق يقوم بإلغاء تأمين الحدود عن قصد. وإن فشل الإدارة الحالية في تطبيق القوانين التي كتبها الكونجرس ودعمها ليس مجرد مسألة تناقش من منظور قانوني، ولكنه أدى إلى معاناة وموت، ما لا يمكن تصوره للأمريكيين والمهاجرين على حد سواء... وعلى مدى ثلاث سنوات، وجهت هذه الإدارة، وأشرفت على تنفيذ قرار مفتوح أجندة الحدود التي أدت إلى كارثة على الأمن القومي والإنسانية والصحة والسلامة العامة على عكس أية كارثة شهدناها على حدود أمريكا". بعد هذا الطرح التحليلي اسمح لي -عزيزي القارئ- بالعودة إلى أسلوب طرح الأسئلة، لماذا يدعم الحزب الديمقراطي دخول المهاجرين الغير شرعيين بدل من الهجرة عبر القنوات الرسمية الشرعية؟! للإجابة عن هذا السؤال نستعرض الحوار الذي جرى بين رئيس الأغلبية في مجلس النواب الأمريكي مايك جونسون (جمهوري) ورئيس لجنة مجلس النواب الأمريكي المعنية بالقضاء جيري نادلر (ديمقراطي): جيري نادلر: "لا يُسمح في الولايات الديمقراطية للمهاجرين الغير شرعيين بالتصويت". مايك جونسون: "نعم، إنهم في ولايتك في نيويورك وفيرمونت وعدد قليل من الولايات الأخرى يصوتون في المجلس البلدي." جيري نادلر: "حسنًا، هذا ليس في الانتخابات الفيدرالية..." مايك جونسون: "ليس بعد .." من خلال هذا الحوار السريع يتبين لك أن الهدف من فتح الحدود للمهاجرين الغير شرعيين هو سياسي بحت، والغرض منه -في العقدين القادمين- هو السيطرة على الانتخابات الرئاسية والتشريعية من قبل الحزب الديموقراطي بالاستعانة بأصوات تلك الشريحة التي سيكون ولاؤها التام لمن مكنهم من الدخول والحصول على الجنسية أو الإقامة الدائمة. ملف الهجرة -عزيزي القارئ- يتعدى أزمة حدود ولاية تكساس، ويعد من أسخن الملفات التي تعزز الانقسام داخل الولاياتالمتحدةالأمريكية، وفي هذا الموضوع نستشهد للمرة الثانية بما كتبه المفكر الأمريكي أستاذ القانون في جامعة هارفرد توماس سويل: "الوحدة والوطنية ليست ترفًا، والأمة هي أكثر من مجرد مجموعة من السكان الذين يعيشون داخل حدودها. ولا بد من وجود شيء ما يوحد هؤلاء الناس إذا كان للبلاد أن لا تتدهور إلى ذلك النوع من الصراع الداخلي الذي لا نهاية له، والذي جلبته البلقنة في العديد من البلدان في مختلف أنحاء العالم، وليس فقط في البلقان. الحدود المفتوحة تؤدي إلى تآكل التضامن الوطني، وحقيقة، إننا بالفعل نتنازع بشأن قضية الهجرة، وهذا يشكل علامة مشؤومة في قضية الوحدة".