من أكثر الأسئلة المثيرة للاهتمام هو لماذا وكيف يزدهر الإبداع في بلد بينما يكاد يخبو في بلد آخر؟ وربما تكمن إجابة هذه التساؤلات في سؤال آخر هو لماذا يزدهر في حقبة زمنية ويخبو في أخرى؟ المواهب موزعة بين البشر باختلاف أعراقهم وأجناسهم وبلدانهم، يولد الإنسان وفي داخله رسام أو شاعر أو مطرب أو نحات وغيرها من المواهب، لكن الظروف المحيطة به على مستوى الأسرة أو البيئة الاجتماعية هي ما يحدد ما إذا كانت هذه الموهبة ستصقل وتزدهر، أو أن تؤول للضمور والاضمحلال. وحدهم من يملكون موهبة استثنائية تلح عليهم بالظهور، يستطيعون الصمود وتحويل حياتهم إلى مشروع واحد يتمحور حول هذه الموهبة ويزدهرون في أي بيئة وتحت أي ظرف، ولذا نتفاجأ بين حين وآخر ببروز مبدع من بيئة لا يمكن أن تنجب شخصاً بفرادته وعظمته. البعض الآخر تنبذ موهبته بيئته الصغيرة المحيطة به لكن يتبناه المجتمع الكبير ويتيح له فرصة التطور والازدهار، ولا أعتقد أن بيتهوفن ومايكل آنجلو وماركيز والموجي وعبدالحليم وغيرهم من العظماء جاؤوا من بيوت وفرت لمواهبهم كل وسائل الرعاية، بل إن بعضهم نشأ في دور الأيتام أو في أسر متواضعة تنبذ الفن وتعتبره تافها. إذاً ما سر ازدهار الفنون ونهضة الإبداع في بلد ما، وزمان ما؟ لا توجد توليفة واحدة تجيب على ذلك؛ لكن هناك عدة عوامل تساهم في رعاية هذا الطيف الجميل في حياة البشرية. في أوروبا مثلاً خلال عصر النهضة لعب عنصرا التنافس والرعاية المادية للمبدعين دوراً مهماً في قيام إحدى أهم الحركات الفنية والإبداعية في تاريخ البشرية، وأنتجت رموزاً قدموا أعمالاً خالدة. مثلاً في إيطاليا التي تعتبر قبلة الفن والإبداع إبان عصر النهضة؛ لعب الأثرياء دوراً مهماً في دعم مجتمع المبدعين، التجار والبابوات والأمراء كانوا يتنافسون في إظهار مستواهم الاجتماعي عبر جمع القطع الفنية ورعاية الموهوبين، وهذا ما زاد من المنافسة بين الفنانين، وبالتالي تطورت أعمالهم ومدارسهم بشكل كبير. كانت عوائل مثل ميديتشي في فلورنسا وسفورتزا في ميلان رعاة أساسيين دعموا وساهموا في ازدهار أعمال فنانين عظماء مثل ليوناردو دافنشي ومايكل أنجلو وبرامانتي، كما ساهم البابوات أيضاً في ازدهار حركة الإبداع عبر استخدام أفضل وأفخر الأعمال الفنية كعنصر أساسي في المعمار الديني. البشر لازالوا يأتون للدنيا معبأين بالكثير من المواهب الرائعة لكنها في مراحلها الخام إلى أن تجد البيئة التي ترعاها وتصقلها فتزدهر وتتطور إلى تحف من الجمال المتفرد. نحن الآن نعيش في بلادنا فترة مختلفة تحتفي بالفن والإبداع وتراهن عليه، وأظن أن ما ينقصنا هو تحريك عنصر المنافسة لتكتمل المعادلة ونبدأ عصر نهضة إبداعية كبرى.
