تتخطى نصوص مجموعة "مكتوب على جباه الرعاة"، للقاصة فوزية الشنبري؛ مفهوم الكتابة باعتبارها وقائع لغوية ذات إحالات قابلة للتأويل ضمن إمكانات اللغة وطاقاتها، إلى أفق أبعد تعود معه الكتابة اكتشافًا غير مسبوق للغة ذاتها، وابتكارًا للمزيد من إحالاتها ودلالاتها، في عملية تشبه المروق من ثقوب الكون السوداء، ومغادرة سطوة العوالم القديمة إلى فضاءات تعيد فيها الكتابة تشكيل الأشياء والذوات ومنحها صفاتها ودوائر حضورها وهوياتها المرسومة بالحبر فحسب، ضمن رقاع لا تزيد مساحة على جباه الرعاة، في مستوى من الكتابة يقتضي حالة استثنائية من التلقي؛ تستدعي قراءة نابهة لا تركن كثيرًا إلى ميثاق التلقي الأولي الذي يخبر أن المكتوب محض قصة قصيرة، ويغفل أن الميثاق الأخطر في هذا التلقي ينعقد فوق نواصي الرعاة في مفردة "مكتوب" التي تمنح النص هويته الأرحب، في حالة من الخلق الإبداعي الحر تراوغ صرامة التصنيف بهوية غائمة تحت مسمى قصة. والمسؤولية الجسيمة في هذا الشكل من السرد أن الكاتبة إذ تنفض دلالات اللغة وتفرغ مضامينها؛ تنهض مقابل ذلك بإعادة ملء الفراغات، وتسويغ الدلالات المستحدثة، وتقريب المنطق الجديد للأشياء التي تخلت عن رتابة استخدامها وسيرتها القديمة. وإثر ذلك فنصوص المجموعة تتحرك عبر مسارين اثنين يتقاطعان في نقطة الكتابة، بينما تحاول الكاتبة من خلال المسار الأول إشهار الهوية الجديدة للعالم وفق رؤيتها وعبر لغتها، بينما تقبض في المسار الآخر على ملامح الهوية الأجناسية للسرد في ثمانية وعشرين نصًا بعدد حروف الهجاء، لتجترح أبجدية موازية، بها وعبرها فقط يمكن قراءة العالمين معًا؛ الذي تؤسس له الرؤية الناظمة للنصوص، والسردي الخاص بين غلافي الكتاب. وإذ نرصد "الكتابة" باعتبارها العلامة الفارقة في العالم الجديد حسب رؤية الكاتبة من خلال عتبة العنوان "مكتوب..." فإن الكاتبة تحتال لهذه الهوية من خلال التماهي وتداخل الذوات؛ ففي نص "حفلة الحياة": (اقتحمت عالم المكتبات، غاصت في دفاتر غريبة، تعاظمت الأمنيات وصارت أكثر غموضًا واستحالة، وفي غفلة من الزمن، وجدت نفسها على الرف تعانق أطفالًا وأقلامًا، ترفرف حولها كتب مقضومة الأطراف)؛ والرف هنا ذو دلالة تتشظى بين مجازية الإهمال، وحقيقة الاستعمال، وهو أيضا نقطة الاستغراق في التداخل بين الذات والكتب، والتماهي بين حدود المداد والأصابع، ليغدو الجذر اللغوي "كتب" الشكل الوحيد لتجذر الذات الجديدة في فضاء الكتابة، والإفصاح الصاخب عنها يأتي على هيئة مكتوب عابر على ناصية مكدودة بالرفض والتعب. وإمعانًا في التأكيد على الانعتاق من مسلمات العالم القديم؛ تعيد الكاتبة استثمار تقنية التماهي والتداخل في نص "مصيدة": (تطل على العالم مستعجلة بقدمين رخوتين، تحاول إدراك الفضول الذي استعمرها لاحقًا) ثم (... كانت سلمى في حالة هياج وثمة سكين مغسولة بالدماء بجانب قطة تنازع، وقد تحولت إلى قطة معطوبة القدمين) وهكذا تستعير الذوات والكائنات ملامح بعضها دون اكتراث، وتقتنص الهوية لحظة الصيرورة، ضمن مصيدة كبرى هي الحياة. وانطلاقًا من مركزية اللغة في رؤية الكاتبة؛ فاللغة وحدها تمنح الأشياء وجودها وأسماءها بعيدًا عن إملاءات الذاكرة: (مر وقت طويل وهو يبحث في المعاجم والكتب عن حالات كثيرة لأوضاع مختلفة، وعن صيغ لفظية حسية ومعنوية، ظرفية زمانية وظرفية مكانية...)، والشخصية هنا قناع الذات الكاتبة في بناء واقعها الجديد وانكماش الحضور الإنساني فيه إلى مجرد حالات (صار يصنف الناس من حوله إلى حالات. أمه: حالة مستقرة، جاره المتزوج ثلاث نساء: حالة يرثى لها... أما هو فصنف نفسه بأنه حالة طوارئ). حتى الشخوص القديمة الخارجة من ميراث النسيان لا يبدو استدعاؤها ضربًا من النوستالجيا ودفق الحنين بقدر ما هي محاولة لتأثيث العالم الجديد بالوجوه الغابرة "عالية، مطلق ..."، وفي نص "صورة عائلية" تتبدى نزعة المحو في الاحتفاظ بإطار الصورة على الجدار فارغًا بعد تفرق شخوصه، فيما يبدو تأهبًا لاستبدال الوجوه والتفاصيل بالذين "خرجوا قطعانًا من حبري فرأيت وجهي مكتوبًا على جباه الرعاة". وفي المسار الآخر تبدو بعض مظاهر كلاسيكية السرد القصصي منسجمة مع رتابة ما قبل دهشة العوالم الجديدة، وكأن فداحة ذلك التحول لا بد أن تأتي مبررة بإطلالات تخبر عن تآكل الواقع وجهامته؛ كما في نصوص "فتنة السد، خيال مستقطع، مأزق تعبيري..."، لتشيد الكاتبة معمار عالمها الجديد فوق أنقاض الواقع الرث الذي تهدم واختلس الزمن مباهجه، في حتمية قدرية تشبه المعقود على الناصية الذي لا مناص منه، تلك الحتمية التي تنطلق منها رؤية الكاتبة لا على سبيل التسليم لها، إنما لتكون ذريعة ذلك الاتكاء التام على اللغة في تشييد حياة موازية، وأكوان من نثار الحروف. إن مجموعة "مكتوب على جباه الرعاة" قبل أن تخبر عن ميلاد قاصة؛ هي أيضا تفصح عن وعي لغوي خطير يمنح المجازفات الكبرى طمأنينة الركون إلى السلاح الذي لا يخذل ثقة رفيقه، ولا يحتاج معه إلى غيره في جنون الشغف الذي يبلغ حد مضاهاة كونٍ بكونٍ مقابلٍ أركانه الحروف، أو مجابهة أقسى المكتوب على الجبين.