الناظر المتأمل في هذا الكون، يستشعر بوجود شيء يحرك أرواحنا وأنفسنا، ويأسر قلوبنا، وربما يذهب عنا بعض الأحزان، ويلقي بظلاله الرحمة والرأفة. هو مشوار سلكه أسلافنا وحملوه بلا عنوة، بل سكن أفئدتهم، واقتحم أسوارها، وكأن الفؤاد بلا قلاع. إنه الحب، ذلك المارد الذي تفيض أحرفه في كل جسم من جوانيتنا، تَراه ولا يراك، هو وجودٌ وعدم في آن واحد. يظن البعض أنها كلمة بسيطة التركيب ولكنها معقدة التكوين، نعم هو ذا المنطق السليم في نظريتهم تلك. الولوج في أمرها صعب وفي تكوينها أصعب؛ حيث إنها تأتي عبر مخاضٍ شديد التركيز، وتكون في حالة صراع ما بين القلب والعقل. وإذا وجدت النفس الراحة والطمأنينة، ربما يهدأ ثوران القلب، وينشغل العقل عن التفكير بمدى صلاحية الأمر في اجتنابه أو قبوله. هو كائن ولكنه عديم الرؤية، هو شبكة من العلاقات الاجتماعية والإنسانية، ويفوق في قدرته امتلاك الأشياء وعشقها، مهما كانت هذه الأشياء جماداً أو كائنات أخرى. فالحب له إرادة عظيمة في تنظيم العلاقات، فهو يجمع الناس تحت سماءٍ من الرحمة والألفة والمودة، فهذه هي حكمته، ولكن صولاته كثيرة، وأشباهه أكثر مما تتخيل، منها ما هو شبيه، ومنها ما هو وهم، ولكن الميزان يكمن في العقل، هو سيد الاختيار، وهذا على سبيل اختيار الزوجة مثلاً أو صديق أو ربما مسكن وحقل وأنعام. ولكن ماذا عن حب الأم أو الأب والأخ والأخت والأبناء والموطن؟ كلها جاءت من صلب وجودك الأول وتكوينك الثقافي الأول، فهذه الأشياء مطبوعة في نفسك، تستحيل كراهيتها مهما أساءت لك يوماً، فتجد عواطفك تحركك بين الحين والآخر.. إنها غريزة سلكت طريقها في ذاتك. فالحب لا يعطي إلا من ذاتهِ، ولا يأخذ إلا من ذاته، والحبُ يملك ولا يملكهُ أحد؛ فالحب حسبه أنه الحب.. هي روائع قالها فيلسوف الحكمة والأدب جبران خليل جبران (1883 1931). ومن ذاتهِ ينثر الأحلام ويذهب الأحزان. لنبدأ بالحب قبل كل شيء، حتى ونحن في لقاءاتنا، في حواراتنا، في حل مشكلاتنا، في كل شيء في حياتنا نبدأ باسم الحب لتهدأ النفوس. وإن اختلفنا على شيء لنتذكر أن جوهر وجودنا هو الحب، الرابط المقدس الذي يجمعنا على خيرٍ، فهو لا يعيش وسط الأشقياء الكارهين لكل جميل؛ لأن الجمال منبعه الحب، والقبح منبته الكراهية. حتى لو أردت أن تبني أسرة صغيرة لا ترفع دعائمها إلا بالحب؛ فالمال والجاه؛ لا يجلبان السعادة ولا الود. ومن هنا تبدأ دورة الحياة، ولتكن مع الحب قبل أي وردةٍ تُزرع.