أكثر من رسالة ودلالة، يمكن قراءتها في طيات ردود صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع، على محاوري وكالة بلومبيرغ الأميركية قبل يومين، رسائل طمأنة للداخل، ورسائل ثقة للخارج، سعى من خلالها سموه إلى وضع حدود وملامح واضحة لطبيعة علاقات المملكة الخارجية، ليس إلى دولة بعينها، ولكن إلى جميع أصدقاء المملكة، وأيضاً أعداؤها في المنطقة والعالم. وبدت رؤية سمو ولي العهد، واضحة تماماً لجميع ما يحيط بالشأن السعودي داخلياً وخارجياً، لقد كشف سموه عن خطوات المملكة المقبلة بخصوص كثير من الشؤون التي كانت موضع تساؤل حول المملكة، ولاسيما فيما يخص الشأن الاقتصادي، موضع اهتمام العالم، ومحل تطلعاته أيضاً، في ظل تواتر الأنباء عن طرح أرامكو، وأسعار النفط، حديث العالم الآن. رسائل ما بين السطور صحح سمو ولي العهد سقطات الرئيس الأميركي دونالد ترمب في ثنايا حديث له في الداخل الأميركي، مقدماً درساً في الدبلوماسية، حين ذكّر المجتمع الدولي بأن المملكة دولة قوية وأن وجودها سابق على وجود الولاياتالمتحدة الأميركية، مقدماً دليلاً دامغاً على قدرة المملكة على الحفاظ على مصالحها، وحماية أمنها ومقدراتها، أيضاً قدم سمو ولي العهد دليلاً جديداً على الثقل العسكري والأمني للمملكة حين تحدث عن أن المملكة ليست في حاجة إلى أحد للدفاع عنها أو خوض معاركها بالنيابة عنها، وأن الولاياتالمتحدة الأميركية، فيما يخص شؤون الدفاع، ليست سوى وجهة لشراء الأسلحة من بين وجهات كثيرة متاحة أمام المملكة، فضلاً أن الولايات الأميركية بالفعل ليست ممول السلاح الوحيد المطروح على الأجندة السعودية، حين قال إن "السعودية كانت موجودة قبل الولاياتالمتحدة الأميركية.. إنها موجودة منذ العام 1744، أعتقد قبل أكثر من 30 عامًا من وجود الولاياتالمتحدة الأميركية". لكن سمو ولي العهد طرق طرقة أخرى على الحديد الساخن بشأن تصريح الرئيس الأميركي غير المحسوب في حق أصدقائه في السعودية بقوله "إن السعودية تحتاج إلى ما يقارب ألفَيْ عام لكي ربما تواجه بعض المخاطر؛ لذلك أعتقد أن ذلك غير دقيق"، العبارة التي تحمل رسالة تحذير قوية للخارج حتى لا تغري التصريحات العابرة للرئيس الأميركي أي قوة إقليمية معادية بالمملكة، وأيضاً رسالة تطمين قوية للداخل السعودي، في ظل مشاعر خيبة أمل واسعة اعترت السعوديين من جراء تصريحات الرئيس الأميركي الذي يعدونه حليفاً أصيلاً لبلادهم. معركة الدبلوماسية بمصر ولم يكتفِ سمو ولي العهد بجميع ما سبق، فمرر تحذيراً مبطناً للرئيس الأميركي، على طريقة القول السائر "السعيد من وعظ بغيره"، حين قال: "في فترة سابقة عملت الولاياتالمتحدة ضد أجندتنا إلا أننا كنا قادرين على حماية مصالحنا.. وقد كانت النتيجة النهائية هي أننا نجحنا، وأن الولاياتالمتحدة الأميركية في ظل قيادة أوباما قد فشلت"، هكذا قدم ولي العهد دليلاً دامغًا آخر إضافياً، ليس على أن المملكة يمكنها البقاء وحماية مصالحها من دون الاعتماد على الولاياتالمتحدة، ضارباً مثلا بفتور العلاقات في عهد سلف الرئيس ترمب، الرئيس أوباما، وأن هذا لم يضر المملكة، بل كانت جولة خاسرة للولايات المتحدة الأميركية، حين أدارت ظهرها للمرة الأولى في تاريخها للأصدقاء في السعودية. قال سموه مذكراً الرئيس الأميركي والمجتمع الدولي بمعركة المملكة الدبلوماسية التي انتصرت فيها على الولاياتالمتحدة وحلفائها في الغرب في أعقاب ثورة 30 يونيو على الوجود الإخواني في الحكم وانحياز المملكة إلى إرادة الشعب المصري ووقوفها إلى جانب الأشقاء في مصر: "وعلى الرغم من أن الولاياتالمتحدة عملت ضد أجندتنا، إلا أننا كنا قادرين على حماية مصالحنا. وقد كانت النتيجة النهائية هي أننا نجحنا، وأن الولاياتالمتحدة الأميركية في ظل قيادة أوباما قد فشلت، على سبيل المثال في مصر". استراتيجية التسلح وواصل سمو ولي العهد تمرير الرسائل المبطنة للإدارة الأميركية، في صورة تحذير مبطن أيضاً، بقوله: "قبل عامين، كانت لدينا استراتيجية لتحويل معظم تسلحنا إلى دول أخرى، ولكن عندما أصبح ترمب رئيسًا قمنا بتغيير استراتيجيتنا للتسلح مرة أخرى ل10 أعوام القادمة لنجعل أكثر من 60 % منها مع الولاياتالمتحدة الأميركية ولهذا السبب خلقنا فرصًا من مبلغ ال 400 مليار دولار، وفرصًا للتسلح والاستثمار، وفرصًا تجارية أخرى. ولذلك فإن هذا يُعد إنجازًا جيدًا للرئيس ترمب وللسعودية"، ويحمل تذكير ولي العهد للرئيس الأميركي بإجراءات المملكة وتحولها عن شراء السلاح من الولاياتالمتحدة في عهد سلفه، دليلاً على استقلال قرار المملكة، وقوة إرادتها، وعدم التزامها بأي أجندة لا تحقق مصالحها، أياً كانت الدولة صاحبة هذه الأجندة، كما يحمل هذا التذكير بإجراء اتخذته المملكة بالفعل، وليس نوعاً من التهديد بعيد الاحتمال، تحذيراً مبطناً للإدارة الأميركية أن ما حدث قبل عامين، يمكن تكراره عند الحاجة، لكن يبقى التذكير الأبرز بأن كلا الطرفين مستفيد من هذه العلاقة، وأن الشراكة بين البلدين وفرت أيضاً للولايات المتحدة فرصاً وظيفية دعمت وجود الرئيس ترمب في مقعد الرئاسة في ظل غضبة قطاع واسع من الشعب الأميركي عليه، وأن العكس هو الصحيح، فقد يكون بقاء الرئيس الأميركي في مقعد الرئيس هو المرهون بالدعم السعودي وليس ما تحدث به ترمب. شعرة معاوية وبدا خطاب سمو ولي العهد بالغ الانضباط واللياقة والدبلوماسية في عباراته، وتمتع بكثير من الحكمة وهو يقيل عثرة رئيس الولاياتالمتحدة بقوله: "عليك تقبل مسألة أن أي صديق سيقول أمورًا جيدة وسيئة، لذلك لا يمكنك أن تحظي بأصدقاء يقولون أمورًا جيدة عنك بنسبة 100 % حتى داخل عائلتك. سيكون هناك سوء الفهم لذا نحن نضع ذلك ضمن هذا الإطار". ودحض ولي العهد ما ذهبت بلومبيرغ من أن "ألمانياوكندا كانتا صديقتين وأنّ ما قامتا به كان أقل سوءاً" في تذكير بردة فعل المملكة القوية حيال الموقف الكندي الأخير، حين قال سموه: "إن الأمر مختلف تمامًا، كندا أعطت أمرًا للسعودية بشأن مسألة داخلية، إنه ليس رأي كندا حول السعودية بقدر ما هو إعطاء أمر لدولة أخرى؛ لذلك نحن نعتقد بأن هذه قضية مختلفة تمامًا، ترمب كان يتحدث لشعبه داخل الولاياتالمتحدة الأميركية عن قضية". وحافظ سمو ولي العهد على "شعرة معاوية" مجدداً، في رده على سؤال بلومبيرغ "نفهم من ذلك أن العلاقات الأميركية - السعودية جيدة الآن كما كانت عليه قبل 24 ساعة من قول الرئيس لهذه الأمور؟" حين قال: "نعم بالطبع، إذا نظرت إلى الصورة بشكل عام سيكون لديك 99 % من الأمور الجيدة ومسألة سيئة واحدة فقط"، ثم احتوى سموه الوضع بحكمة، وأقال عثرة الرئيس الأميركي مجدداً، بقوله: "أنا حقاً أحب العمل معه ولقد حققنا الكثير في الشرق الأوسط خصوصًا ضد التطرف والأيديولوجيات المتطرفة، والإرهاب واختفاء داعش في فترة قصيرة جدًّا في العراق وسورية، كما أن العديد من الروايات المتطرفة قد تم هدمها في العامين الماضيين، لذلك فإن هذه مبادرة قوية. لقد عملنا معًا أيضًا مع أكثر من 50 دولة؛ للاتفاق على استراتيجية واحدة في الشرق الأوسط، ومعظم تلك البلدان متفقة مع تلك الاستراتيجية، نحن الآن ندحر المتطرفين والإرهابيين وتحركات إيران السلبية في الشرق الأوسط بطريقة جيدة، ولدينا استثمارات ضخمة بين كلا البلدين ولدينا تحسن في تجارتنا والكثير من الإنجازات، لذلك فهذا أمر عظيم جدًّا". شفافية وأمان وعلى العكس من الشأن السياسي، جاءت رسائل سمو ولي العهد فيما يخص الاقتصاد واضحة، لا تحتمل أي احتمال أو مضمون مبطن، فعن موقف المملكة من ارتفاع أسعار النفط أو انخفاضها، قال سموه: "على مدى تاريخ السعودية لم نقرر قط ما إذا كان سعر النفط صحيحًا أم لا. سعر النفط يعتمد على العرض والطلب وبناءً عليهما يتحدد سعر النفط." وذكّر سموه العالم بمواقف المملكة الشفافة والأخلاقية بهذا الخصوص بقوله: "إن ما التزمنا به في السعودية هو التأكد من عدم وجود نقص في المعروض. لذلك نحن نعمل مع حلفائنا في أوبك والدول غير الأعضاء في أوبك، للتأكد وجود معروض مستدام لدينا من النفط، وأنه ليس هناك نقص، وأن هناك طلبا جيدا، والذي لن يخلق مشكلات للمستهلكين وخططهم وتنميتهم". أيضاً تحدث سموه بشفافية وقطع الطريق على الشائعات، بشأن طرح أرامكو وما يثار حول شرائها شركة سابك، موضحاً أن الطلب المتزايد على البتروكيميائيات، يحتّم على أرامكو أن يكون مستقبلها (downstream)، "وحين تقوم أرامكو بذلك، سيكون هنالك تعارضٌ كبير مع سابك، لأن سابك متخصصة في البتروكيميائيات والمصب (downstream)، ومصدر سابك الرئيس للنفط هي أرامكو. لذا فحين تقوم أرامكو باتِّباع هذه الاستراتيجية، فستعاني سابك بكل تأكيد. لذا فقبل أن نقوم بذلك، يجب أن يكون لدينا نوعٌ من الاتفاق لكي نضمن استفادة أرامكو من سابك وأن سابك لن تعاني خلال تلك العملية. لذلك وصلنا إلى نقطة، أن صندوق الاستثمارات العامة سيقوم ببيع حصته التي يملكها في سابك والبالغة 70 % لصالح أرامكو وأرامكو سوف تقوم بباقي العمل المتعلق بالاندماج "، أيضاً كشف سموه عن أن "طرح أرامكو للاكتتاب بعد تلك الصفقة مباشرة، لأن الأمر يحتاج على الأقل لسنةٍ ماليةٍ كاملة قبل الطرح العام؛ لذا نعتقد أن الصفقة ستتم في العام 2019، وعلى ذلك فأنت تحتاج إلى العام 2020 بالكامل قبل الطرح العام لأرامكو". وفضلاً عن الشفافية التي تحدث بها سمو ولي العهد للعالم عن طرح أرامكو، حتى يقطع الطريق على التكهنات التي قد يكون بعضها موجهاً للتأثير على الطرح، بدا سمو ولي العهد على دراية تامة بالتفاصيل الفنية فيما يتعلق بطبيعة عمل الشركتين العملاقتين، وأيضاً بالسيناريوهات المستقبلية لسبل تعظيم استفادة المملكة منهما، وأيضاً القراءة العميقة والاستراتيجية لمستقبل الشركتين اللتين تمثلان ركيزتين أصيلتين للاقتصاد السعودي، الأمر الذي ينعكس من دون شك في تعزيز الثقة في السياسات الاقتصادية للمملكة من قبل العالم، وسيبقي على الأمل لدى الدول المتطلعة إلى الاكتتاب التاريخي على مستوى العالم. وأرسل ولي العهد رسالة طمأنة أخرى إلى المستثمرين حول العالم برده على سؤال بشأن مستوى القلق إزاء تدفق رأس المال إلى المملكة، بقوله: "في تقديري أن الأرقام كانت جيدة. في الربعين الأولين، تحصلنا على زيادة في الاستثمار بنسبة 90 % في المملكة. لا أعتقد أن هناك ما يدعو للقلق". وقدم سموه مثالا ذكياً حول مستوى الأمان الذي تتمتع به رؤوس الأموال في المملكة بقوله: "كما تعلمون نحن نحظى بسوق حر في السعودية، حرية في تحرك الأموال، ولو نظرت إلى سجل المملكة في هذا العام وفي العام الماضي وعلى سبيل المثال أثناء حرب الخليج العام 1990م، لم تقم المملكة بمنع أي تحرك للأموال. نحن نواصل التزامنا بهذا الأمر، ونواصل العمل كسوق حر". Your browser does not support the video tag.