في لندن .. يمر اليوم سريعاً وأنت تتجول ببصرك وبعدسة هاتفك المحمول بين المعالم التاريخية والقصور الملكية والحدائق الفسيحة.. لا غربة هنا ولا إحساس بالخوف أو التقيد بحاجز المكان واللغة والاختلاف. وبينما أنا على هذا الحال من الانغماس في هذا الواقع الانجليزي الساحر حصل لي موقف لافت في إحدى محطات المترو ..وحينها .. تغير كل شيء. عندما كنت منشغلا بكاميرا هاتفي لتوثيق خطواتي والعروض الموسيقية المنفردة داخل محطة ويستمنيستر القريبة من ساعة بيغ بن الشهيرة أحسست بيد تربت على كتفي لتستوقفني، توقعت حينها أني سألتفت لكي أرى صديقاً أو أحد الأشخاص الذين أعرفهم، فإذا بي أمام امرأة فارعة الطول بادرت لإظهار بطاقتها الرسمية التي تدل على أنها من الشرطة السرية، وقبل أن استوعب الموقف أو حتى أن اقرأ الاسم فاجأتني بسؤالها: هل لي أن اعرف لماذا كنت تصور بجوالك منذ دخولك المحطة؟ طبعاً كان السؤال باللغة الإنجليزية ولكني من الدهشة ترجمته كجزء من فيلم أجنبي مدبلج للعربية. كانت المرة الأولى التي يحصل فيها معي موقف من هذا النوع .. شعرت حينها وكأني في حلقة من مسلسل طاش ما طاش .. عندما يقول شرطي المرور العريف سعيد لكل من يستوقفه من المخالفين فين تشتغل إنت.. فين تشتغل ؟ كنت في حيرة بشأن الإجابة المنطقية التي تخرجني من دائرة الاشتباه اللحظي، هل اتحجج بعدم وجود أي لافتة تمنع التصوير، أم أمتنع وأطالب بوجود محامٍ أو ممثل عن السفارة السعودية قبل الإدلاء بأي شيء قد يدينني أو يجعلني مخالفاً للقانون؟ في الحقيقة .. اخترت طريقاً ثالثاً رأيت فيه المخرج الأنسب: أنا سائح وأوثق رحلتي من خلال الكاميرا لمشاركتها عبر مواقع التواصل، وفتحت جوالي بكل ثقة لأريها ما صورته من معالم طوال اليوم مبديا استعدادي لمسح ما ترى فيه مخالفا للتعليمات والقيود، رغم ذلك طالبتني بوثيقة تثبت هويتي، وقامت بتسجيل معلوماتي العامة وتاريخ دخولي لبريطانيا وموعد مغادرتي المرتقبة. كانت تدون كل هذه المعلومات على دفتر ملاحظات صغير ممتلئ ببيانات أشخاص آخرين، وعندما انتهت سألتها: هل أنا قيد التحقيق فقالت: لا .. مجرد مراجعة روتينية للمعلومات، وبررت ذلك بالتهديدات الإرهابية المتصاعدة في الفترة الأخيرة، لم يخل المشهد من حوار مشترك حول ضرورة الحذر والتنبه فالأمن هو الأهم خصوصاً وأني جئت بصحبة العائلة، وامتد الحديث للإجابة عن سؤال العريف سعيد: أني اشتغل كصحفي ومهتم بقضايا الإرهاب لذلك أدرك تماماً هذا الإجراء في ظل ما يحيط ببريطانيا من تهديدات. حين ودعتها بعد أن دلتني على وجهتي المقبلة .. أدركت أن ملامحي الشرق أوسطية كانت السبب الحقيقي وراء استيقافي وما التصوير إلا مبرر حتى لا يكون هناك تمييز يجرمه القانون البريطاني عند اختيار من هم من ديني وعِرقي. للأمانة لم يزعجني ذلك بقدر ما أزعجني الخوف والشك الذي زرعه الإرهاب بيننا، فهذه المدينة التي فتحت أبوابها للملايين لم تسلم هي الأخرى من تفجيرات دامية استهدفت محطات مماثلة لتلك التي أصورها الآن بكل ثقة. لندن مازالت تحت تأثير أحداث سبعة، سبعة العام 2005 التي قتل فيها خمسون شخصاً وأصيب 700 آخرون من جنسيات وديانات مختلفة في أربعة تفجيرات استهدفت المواصلات العامة، و من وقت لآخر تشهد العاصمة البريطانية هجمات تذكر بذلك ومنها عمليات الدهس والطعن التي وقعت قبل أشهر قليلة فوق جسر لندن وفي سوق بارا وأسفرت عن مقتل وإصابة العشرات من الأبرياء، وما بين الهجومين الكثير من المحاولات والاعتداءات التي تجعل من حفظ الأمن في مدينة مكتظة بالسكان والسائحين مثل لندن مهمة شبه مستحيلة. في بريطانيا وفي المملكة وفي كل مكان من العالم نعيش كل يوم تحدياً من هذا النوع، وحتى لو انتصرنا في التصدي لكل محاولة اعتداء، وتجاوزنا كل حادث تفجير يبقى الخوف والشك الذي يخلفه الإرهاب بيننا بحاجة إلى مواجهة من نوع آخر تتطلب المزيد من التواصل والثقة والمشاركة الفاعلة في القضاء على هذا العدو المشترك لكل الجنسيات.. والأعراق.. والأديان.