جريمةٌ من نوعٍ آخر هي التي سأتطرق إليها؛ لا أرى من وجهة نظري أنها تختلف كثيراً عن الجرائم الجنائية الحقيقية؛ لأنها بالفعل جنايةٌ واقعيةٌ ولكنها (مغلّفة)، بل ينطبق عليها العبارة التي نشاهدها في المسلسلات بأنها من نوع (جريمةٌ مع سبق الإصرار والترصّد). ما يقارب السبع ساعات في الطائرة خلال رحلةٍ دوليةٍ إلى ألمانيا يجلس بالقرب من مقعدي والدان وبرفقتهما طفلٌ لا يتجاوز عمره الخمس سنوات، لن تصدقني عزيزي القارئ عزيزتي القارئة لو أخبرتكم بأنه وطوال الرحلة لم تفارق يدا وعينا الطفل ولو للحظةٍ واحدةٍ جهازه المسمى ب(الذكي) للأسف!. كل ذلك بمباركةٍ من والديه الذين لم يستشعرا أدنى مراتب المسؤولية، المتحلّيان بأعلى مراتب الأنانية، الغير آبهان بحديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (كلكم راعٍ وكلكم مسؤولٌ عن رعيته). نظرات عطفٍ كنت أسترقها لهذا الطفل المسكين وهو (يفرك) أصابعه بحركاتٍ لا إراديةٍ متكررةٍ من تأثير الإدمان على مثل هذه الأجهزة وما تحتويها من ألعاب، ولا تكاد تمرّ بضع دقائق إلا وتسمع له صرخةً غريبةً ولا أبالغ بالحديث حين أقول بأنها تصل في بعض الأحيان إلى ما يشابه البكاء الهستيري من جراء خسارته لعبةً ما أو ماشابه ذلك، حين تراقبه تجده يعيش عالماً افتراضياً غير عالمنا ويتصرّف بعيداً عن واقعه المحيط فيه. هذا المثال هو صورةٌ حقيقيةٌ لما ابتُلي فيه مجتمعنا خلال السنوات القليلة الماضية وأصبح (يستفحل) بطرقٍ مخيفة، حيث لا تكاد تجد بيتاً إلا ويعاني من هكذا مشكلة، حتى أمسينا نسمع عن انتشار الأمراض العصبية والعقلية والنفسية بين الأطفال بشكلٍ متزايد، وأنا من هذا المنبر لن أناقش الموضوع من منطلق طبي بحت لأني أعلم بأنه سيطول. قبل عدة أسابيع حين سألت أحد الزملاء عن نصيحته لي في اختيار كتاب عن (أفضل المشاريع الاستثمارية)؛ التفت ناحيتي وأجابني بثقةٍ متناهيةٍ وبعبارةٍ تكتب بماء الذهب: الاستثمار في الأبناء لا يحتاج البحث عن كتاب يا صديقي! يتعذر الوالدان أمام نفسيهما بأن العمل ومسؤوليات الحياة وكثرة الالتزامات هي السبب وراء انشغالهما عن الأبناء، ولا يدركان حجم المسؤولية التي من المفترض أن يوليانها لمن هم في أشد الحاجة لهما، ويعتقدان بأن ما تسمى ب(الأجهزة الذكية) هي أفضل خيار ليكون الطفل أمام ناظريهما دون الخوف من خروجه من المنزل، ولا يعلمان شدة مخاطر هذه الأجهزة أو قد (يتجاهلانها)!.. بل إني رأيت بعض الآباء والأمهات يعتبرونها هي الحل الأمثل لحل مشكلة وقت فراغ الأبناء حتى وإن طال استخدامها لعدة ساعات ووصلت مرحلة الإدمان (اللامعقول)!. جميعنا يدرك لاشك بأن استخدامها في حدود المعقول من الوقت، واستغلالها فيما هو مفيد لهم وتحت إشراف الوالدين أو أحدهما، يعتبر إيجابياً ومساعداً ومكمّلاً أيضاً في طرق التربية والتعليم المختلفة، ما لم يتجاوز الهدف والغاية التي من المفترض أن يرسمها ولي الأمر. في الدول الغربية -وأنا للعلم لست من مقدسيها- يتم انتزاع ولاية الطفل من والديه حالما يثبت وجود إهمال أو ضرر حتى ولو لم يكن متعمداً؛ أو حتى إيذاء بطريقةٍ غير مباشرة، والسؤال الذي يفرض نفسه هنا هو هل لو تم تطبيق مثل هذه القوانين الصارمة في بلادنا العربية سيبقى الكثير من الأطفال ضحايا مثل هذا الإهمال؟، وهل سيبقون فعلاً تحت سطوة تجاهل والديهم دون "نزع ولايتهم"؟!.