يوم آخر هذا الذي سوف أحياه ... يوم جديد... خوف هنا يسكنني.. فرحة تغتال هذا الخوف... أحاديث وحكايا تملآني بالقلق... أعمال كثيرة لدي مدرجة لا بد منها اليوم وفوق كل هذا القلق يكتسيني شعور بالحزن رغم سعادة الحاضرين بي؟! فهذا منزلنا الذي لم يطرق له الفرح باباً سوى اليوم!! فالأقارب والأحباب وكل وجه نحبه رأيته في هذه اللحظات الباقية الكل هنا يدعو لي بالتوفيق وحُسن الحظ والسعادة وفي داخلي كنت أومن طمعاً في سرعة الإجابة من عند الله... فاليوم ليلتي وسوف تشهد مدينتي وتشهد أزقتها ويشهد سكانها ومن فيها أنني عروسها المتشحة بالبياض. ٭ خطوات وئيدة كنت فيها أتجول في منزلنا انظر إلى السقف الذي طالما سترنا وضمنا بدفء... انظر جيداً إلى الأبواب التي لم تضق بنا ذرعاً ونحن ندفعها ونسحبها بقوة بل كانت في غاية الرحابة إلى أن اشتد عودنا وكبرنا وعرفنا كيف نتعامل معها بحب!! مازلت أمسك باب الشرفة وأتحسسها جيداً .. لهفتي لها كما هي الآن وفي هذه الساعات القليلة المتبقية لي في هذه الدار أجدها تتوقد أكثر ولا أشك للحظة أنها تبادلني ما أشعر... أغمض عيناي برفق وارتياح وافتح بوابة شرفتي بسرعة فلم أعد قادرة أن أكون أمامها ولا ألبّي حنيني وشوقي رغم وجودي طوال عمري أنا وهي في هذا المكان متجاورين. ٭ أسير بفرح وفي داخلي شكوى لم يتسع قلبي لها كي يخبئها وضعت يداي على حافة الشرفة لأرى عالمي الذي كنت أحلم به ولم يتحقق وبصوت مسموع لا يخلو من الانكسار قائلة: أنا اليوم عروساً ولكن أحلامي التي طالما تمنيتها وعشت معها في خيالي وحلمت بها ورسمتها في هذا المكان لم تعد موجودة؟! ذهبت هناك مع كل شيء عندي لم يتحقق وما أكثره؟! هي الأماني والأحلام هكذا!! اقترب منها أكثر لكي أتنفس أرق نسائمها علّني أجد ما يبدد ذلك التشاؤم ويجلب لي حُسن الفأل هامسة لها: أيتها الشرفة أتذكرين كيف كنت أحلم أن أكون عروس لفارس غني ذي ثروة.. ومكانة.. ومنصب، فجمالي وشهاداتي العالية وما أملكه من ذوق راق ولباقة يؤهلاني أن أكون سيدة في هذا المجتمع!! لم أسمّي هذا الفارس ولم أعرف له ملامح ولكني كنت أريد عالمه المترف الراقي لأني لم أكن لأهتم بالجوهر والدواخل ولا حتى المشاعر بقدر ما كنت اهتم بعالم مبهر أسطوري أنا فيه السيدة. ٭ مضى الوقت ولم يأت هذا الفارس المنتظر وكنت أرفض الكثير ممن تقدموا لخطبتي استعداداً لقدومه، ولكن لم يأت ولم يكن أمامي فرصة للاختيار... والعمر يمضي بسرعة، وإصرار والدي على زواجي من ابن خالي (سليم) خوفاً عليّ أن يمضي قطار الزواج وأتخلف عن اللحاق به وهو الذي لم ييأس من طلب الزواج مني حينئذ وافقت بالاقتران به فليس لديّ فرصة أخرى للاختيار سواه فهو أستاذ مدرسة وشاب متواضع والكل يمتدحه رغم أنه لم يلفت نظري يوماً وبه لا أبالي ولكن هي الأقدار التي جعلتني أقبل. ٭ هناء .. هناء.. هذا صوت أمي تناديني قائلة: هيا بسرعة فلم يعد لدينا وقت... أجمع أغراضي وما تبقي لي من ذكريات في هذا الملاذ الرائع فأنا اليوم مودعة لأنتقل إلى بيتي أنا وابن خالي (سليم) ذاك الطفل العنيد الذي لا أتذكر منه شيء يعجبني فلطالما رجوته حينما كنّا صغاراً أن يصورني بعدسة التصوير وخاصة في أيام العيد حين أزهو بفستان جديد وحقيبة جميلة فينهرني باستهزاء قائلاً: سأصور صديقتك (فوزية) وغريمتك (هدى) وأنت لا... حينئذ أنظر إليه بغضب متسائلة: لماذا؟! فيرد رداً أعظم من فعلته قائلاً: لا أجد فيك شيئاً يستحق التصوير بعد أن أعطيته سلسلة كنت أحبها ليصورني فيأخذها مني ثم يقول لي هذا الكلام!! كبرت وهذه الكلمات في أذني لا تبرح وخاصة عندما يتكرر حضوره لي خاطباً؟! وعندما أرفضه ازداد زهواً فقد جاء اليوم الذي سوف أقول فيه: لا .. لا تشفياً به. ٭ وفي بيتنا الجديد.. تعالت الزغاريد.. وانتشرت رائحة العطور والبخور والتبريكات ... حين تسابقن أخواته به فرحاً وأنا أُزف إليه قائلة إحداهن وهي تدعوني للنظر إليه: أرأيت وجهه كيف يتهلل فرحاً بك؟! فأعظم الأماني تتحقق له اليوم بعد كل هذه السنين من الانتظار!! أرفع عيناي بسرعة خاطفة لم يلحظني فيها لأرى أمامي وجهاً جديداً غير ذاك الذي رسمته وجهاً تعبق منه الطيبة والمرح والتواضع!! ٭ وفي أصعب اللحظات لديّ انسحب الجميع وبعد أن كنت متكلمة لبقة أصبحت الآن مستمعة خجولة فقط لما يقول هو؟!! فأنا في هذا الوقت أمام شخص لا أعرف له طباعاً إلا من أحاديث الآخرين عنه. ٭ بدأ يتحدث بسعادة عن مشاعر قديمة يحملها لي وكيف أصبحت وبقيت معه وكبر إلى أن أصبحت أمنية نفيسة لا بد من تحقيقها قائلاً: نعم أمنية أنت لدي غالية ولكن كنت أنت الغاية وأنت العقبة... كنت العقبة برفضك المتكرر الذي طالما صدمني وأنت الغاية التي أطمح إليها!! وأنت فقط من سيسعدني في هذا الكون!! ٭ كنت أسمع هذا الكلام وأنا سعيدة مزهوة بنفسي أمام كل هذا الإطراء الصادق وفجأة أمسك يدي بقوة حتى كدت أن أسقط ولا أعلم له وجهة.. ليخرج من جيبه مفتاحاً بسلسلة غريبة هي لي! مازلت أتذكرها جيدا!! ويفتح الباب وأصدم بما أرى فلم تكن الغرفة عادية بل كانت أشبه بصالة لعرض الصور وكل صورة يحيط به إطار رائع معلقة على الجدران الأربعة لتلك الغرفة والتي طليت بلون الزهر لوني المفضل!! حينئذ أطلق يدي بعفوية قائلاً: (هناء) أرأيت هذه الغرفة وجدرانها الأربعة طالما احتوتك بحب وهي جماد وقلبي يشبهها لأنه احتواك بعاطفة وشوق وحياة كل هذه السنين!! كنت أنت فيه عالماً لي من الحقيقة لا صور!! أحيا به مع الأمل؟!! نظرت إلى الصور وأنا أبكي فهذه الصور لي وأنا طفلة قادمة من المدرسة وهذه وأنا ألعب مع أطفال الحي.. وأنا هنا مع صديقتي وغريمتي.. وأنا هنا أبدو باكية.. وهنا غارقة في الضحك.. وهذه صورتي في يوم العيد مازلت أتذكرها جيداً عندما رفض تصويري بحجة أنني لا أستحق... ٭ أبكي فأنا متفاجأة ومحظوظة بذلك السيل الهائل من المشاعر!!، انظر إليه بحب وأنا مزهوّة به لا بنفسي!! حينئذ أحسست بالأمان معه وأن كل شيء صعب وقاس في حياتي مع (سليم) سيصبح لا معنى له!! مازلت أبكي وأنا أتحسر على تلك السنين التي رفضت أن أكون معه ظلاً يرافقه.
