بدء أعمال المنتدى الدولي "الإعلام والحق الفلسطيني"    الاتحاد يُتوّج بكأس وزير الرياضة للجودو    "الرياض للبولو" يتوّج بطلاً لبطولة تشيسترز ان ذا بارك    نائب أمير حائل يشهد الحفل الختامي لبرنامج مسارات 2024 م    زوجة «سفاح التجمع» تظهر من لندن: نجوت من مصير الفتيات !    كيت ميدلتون.. قد لا تعود أبداً إلى ممارسة دورها الملكي    399 مخالفة على منشآت العمالة الموسمية بالمدينة    مانشيني يواجه الإعلام قبل لقاء الأردن    400 مخالفة على الجهات المخالفة للوائح التعليم الإلكتروني    «الداخلية»: انطلاق الجلسات العلمية لمنتدى الخدمات الطبية    «أرامكو»: 0.73 % من أسهم الشركة لمؤسسات دولية    بعد ياسمين عبدالعزيز.. ليلى عبداللطيف: طلاق هنادي قريباً !    شريفة القطامي.. أول كويتية تخرج من بيتها للعمل بشركة النفط    شرائح «إنترنت واتصال» مجانية لضيوف خادم الحرمين    استقبال 460 حاجاً من ضيوف خادم الحرمين من 47 دولة    المجلس الصحي يشدد على مبادرة «الملف الموحد»    تحديث واتساب يكشف حالة نشاط الأصدقاء    الاقتصاد السعودي.. محركات قوية للنمو المستدام    مستثمرو النفط يتطلعون لانتعاش الأسواق بعد خسارة أسبوعية    القيادة تهنئ ملك الأردن    الأمريكي" غورست" يتوج ببطولة العالم للبلياردو    الأهلي يفاوض كيميتش والنصر يتخلى عن لابورت    "هيئة النقل" تدشن سيارة الرصد الآلي كأول تجربة لها في موسم الحج    الداخلية تستعرض خططها لموسم الحج.. مدير الأمن العام: أمن الوطن والحجاج خط أحمر    أمير القصيم يشيد بجهود "طعامي"    محافظ الأحساء يرأس اجتماع لجنة السلامة المرورية    «فتيان الكشافة» يعبرون عن فخرهم واعتزازهم بخدمة ضيوف الرحمن    «بيئة الرياض»: 3918 جولة رقابية على أسواق النفع العام والمسالخ    قيادات تعليمية تشارك القحطاني حفل زواج إبنه    سعود بن نهار يدشّن الصالة الإضافية بمطار الطائف    الحج عبادة وسلوك أخلاقي وحضاري    11 مبادرة تنفيذية لحشد الدعم الإعلامي للاعتراف بدولة فلسطين    شهد مرحلة من التبادل الثقافي والمعرفي.. "درب زبيدة".. تاريخ طويل من العطاء    وزارة الحج تعقد دورات لتطوير مهارات العاملين في خدمة ضيوف الرحمن    إعادة تدوير الفشل    خلود السقوفي تدشن كتابها "بائعة الأحلام "    90 % من أطفال غزة يعانون سوء التغذية    العطلة الصيفية واستغلالها مع العائلة    تدشين خدمة الربوت الذكي بجوار المسجد النبوي.. مشاهد إيمانية تسبق مغادرة الحجيج المدينة المنورة    رسالة جوال ترسم خارطة الحج لشيخ الدين    "السمكة المتوحشة" تغزو مواقع التواصل    استشاري:المصابون بحساسية الأنف مطالبون باستخدام الكمامة    الدكتورة عظمى ضمن أفضل 10 قيادات صحية    أمير الرياض يطلع على عرض لمركز صالح العسكر الحضاري بالخرج    فشل التجربة الهلالية    انطلاق معسكر أخضر ناشئي الطائرة .. استعداداً للعربية والآسيوية    رئيس جمهورية قيرغيزستان يمنح رئيس البنك الإسلامي للتنمية وسام الصداقة المرموق    وفد الشورى يطّلع على برامج وخطط هيئة تطوير المنطقة الشرقية    التخبيب يهدد الأمن المجتمعي    تغييرات الحياة تتطلب قوانين جديدة !    رئيس الأهلي!    الشاعر محمد أبو الوفا ومحمد عبده والأضحية..!    أمير تبوك يواسي عامر الغرير في وفاة زوجته    قطاع صحي ومستشفى تنومة يُنفّذ فعالية "مكافحة التدخين"    فريق طبي "ب"مركزي القطيف" ينقذ حياة مقيم    نصيحة للشعاراتيين: حجوا ولا تتهوروا    نفائس «عروق بني معارض» في لوحات التراث الطبيعي    توفير الأدوية واللقاحات والخدمات الوقائية اللازمة.. منظومة متكاملة لخدمة الحجاج في منفذ الوديعة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هل يبكون العراق خجلاً من السياب أم خوفاً من التاريخ؟
شعراء الخليفة المستعصم

مع كل غروب ينهض شعراء الرومانسية، إما لتمجيد النهار أو الاستمتاع بوصف الغروب الشهي أو لتدبيج المراثي المجانية..
بغداد المستعصم سقطت فتوافد شعراؤه على قراطيسهم ليكتبوا التاريخ في وقت بخسٍ دقائق معدودة.. إنها الغريزة اليعربية المفرطة التي تسع عرس المأتم ومأتم العرس.
لكن خارج دائرة الصدق الضيقة، هل كتبوا خجلاً من السياب أم خوفاً من التاريخ؟ الاتهامات تترى وكل يكيل التهم.. خمسة منهم بين يديك. البعض كتب خجلاً من السياب والبعض لم يكتبوا خجلاً من الخجل وآخرون أكدوا غياب السياب والتاريخ عن خريطة الدمع والغضب.
أول ضيوف الاستطلاع الأستاذ والشاعر عبدالله الزيد الذي احتج على مادة المحور حيث وصف التناول بأنه خرج من القضية برمتها إلى سياق:
المعني بالمحور غير موجود
لا يخلو هذا الطرح من كثير من التحامل وإساءة الظن الفكري والمعنوي بالشعراء، ذلك لأن الشاعر الحقيقي - ولا ريب في أننا مجمعون على أن الحديث إنما هو عن الشعراء الحقيقيين - لا يمكن أن يكتب خجلاً من أحد ولا خوفاً من غير زمانه الذي يعيشه ثم إن اقحام السياب دون سواه من المبدعين الاستثنائيين لكي يحظى بما يتطلبه الاعتبار في ذات الشاعر أمر يتسم بغير قليل من الغرابة.. فلا السياب قيم وطني وحيد على غيره، ولا التاريخ الشعري العراقي أحادي الانتماء توحيدي التجلي في نوعية العطاء، والموت قهراً تحت حيطان كربلاء..
والتاريخ - من جانب استقرائي - لا يخيف أحداً شاعراً أو غير شاعر، وبخاصة تاريخنا العربي، والدليل على ذلك هو هذا التخلي والتفريط المتوالي حتى وصلنا إلى ما وصلنا إليه.. ألم يبك أحد شعرائنا ذات يقين:
(.. غريق بليل الهزائم سيفي..
ورمحي جريح..
ومهري على شاطئ الزمن العربي..
يلوك العنان....)؟!
أما الشيء المحزن حقاً.. فهو أن الشعراء - أصلاً - لا يكتبون للعراق فلم يعد في العراق ما يُكْتَب له، وإنما هم يكتبون لأنفسهم وذواتهم، فالمسألة لا تتعلق بجزء من الوطن المغتال سلفاً، وإنما تتعلق بهزيمة مدمرة واستلاب جوهري مُرّ يعيشه الشاعر في تكوينه يتصل كثيراً بوجوده وإنسانيته وآدميته، وبموقعه على خارطة الشروط الإنسانية التي تختلف نسبيتها من مكان إلى آخر ومن شعب إلى شعب.
المحور المطروح عندما يندلق بهذا الشكل فإنما يريد - بوعي أو بدون وعي - أن يسطع التناول في مسألة (الرثاء) أو (الاحتجاج)، أو - حتى - فيما يسمى ب (أدب المقاومة). والمسألة - في اعتقادي تتجاوز كل ذلك..
الآن.. يخيل لمحرر هذا المحور وللمتلقي كذلك أن التناول خرج من القضية برمتها إلى سياق آخر.. هكذا يبدو، والحقيقة تشير إلى غير ذلك.. الذي خرج ولم يعد هو المحور ذاته أو - على الصحيح - هو الذي انتفى بانتفاء أجزائه أصلاً:
1 - الشاعر لا يكتب خجلاً من السياب، ولذلك أسبابه..
2 - الشاعر لا يكتب خوفاً من التاريخ، ولذلك تعليله..
3 - العراق الذي يعنيه المحور غير موجود، ولذلك تفسيره..
إذاً انتفى المحور واختفت مترتباته، وبقي الشاعر حراً في تعبيره عما يريد.. أجدني مضطراً إلى التذكير بحقيقية الشاعر، أو بالشاعر الأنموذج، فليس بخاف أن هنا انتهازيين وأن هناك المصطادين في مياه الفجائع، وهناك الذين مصائب غيرهم فوائد لديهم، وهناك من يريد أن يسجل حضوره ويكتب اسمه ليس إلا، وهناك من لا يعرف (السياب) ومن لا يعنيه العراق في شيء..
الشاعر الحقيقي يكتب للعراق لأنه لا يختلف عن السياب في المسألتين: الشعرية، والعراقية، والشاعر الحقيقي يكتب ولا يضع التاريخ نصب تجربته، لأنه هو بذاته ومعاناته وقصائده وكتاباته تاريخ جليل، ولأن التاريخ ناتج وجزء من تجربته. الشاعر المتفرج أو المتسول أو المتسكع ليس في الاعتبار، وليس محسوباً بحال على المسألة الإبداعية الشعرية، إنما الشاعر المعتبر والمحسوب هو الشاعر المسؤول عن تكوينه، عن تجربته، عن حقيقية شعريته (ومن دون شك) عن مواقفه ودوافعه وأسبابه..
هل نعرفهم؟ ونفرق فيما بينهم؟.. نعم.. نعم.. نعم.. ليس هناك أكثر وضوحاً من الفرق بين الشاعر الحقيقي وبين الذي يمثل دور الشاعر!!
هل تريد أنموذجاً.. وعراقياً.. خذ هذا السؤال الجارح الحاد:
(هل يمكن - وبأي احتمال - أن تقارن بين (سامي مهدي) و(يحيى السماوي)؟
وهنا.. دعني أتوقف عن الكتابة الموجعة:
فالمحور المطلوب طار من يدي..
وتحليل ما حصل يدع الحليم حيران..
والمقارنة بين الأنموذجين السابقين فادحة..
والوجع لا حدود له..!
الرهان النظري والتطبيقي
أما الأستاذ الشاعر حامد بن عقيل رئيس تحرير مجلة (جهات) فيذكر أن التاريخ لم يعد مخيفاً وأن بين التاريخ والسياب يقف مبدأ تطوير الفكرة:
(من يؤمن بنبوءة السياب، يؤمن أن ما يحدث في العراق أمر حتمي. «وفي العراق جوع، ما مر عام والعراق ليس فيه جوع»!. لكن، للتاريخ سننه، كما أن للسياب بصيرته التي انتجت رؤية مستقبلية تغافل عنها الكثيرون، وإن من الشعراء من يهجس بما سيقع، وإن منهم من يقرأ الآني، وإن منهم من يجذف في الأمس كي يتلمس طريقه في سبيل أن يفهم ما يحدث.
لم يعد التاريخ مخيفاً، لدي يقين راسخ أن التاريخ كتاب زائف في مجمله، وحين يتبادر إلى ذهني وهج فكرة ما لأتخذ موقفاً من إحدى القضايا الموجعة - وهي كثيرة - على امتداد حزننا العربي، أتذكر إذ ذاك أن التاريخ يستطيع أن يخرجني إلى الناس في حلة مرتزق؛ فأخفف من وقع التاريخ ووطأته كمؤثر في اختيار الأسلوب الأمثل الذي يجب علي تبنيه لتبيان موقفي من أي قضية. إنها حقيقة أن من يخرج عن الأطر المحددة للأيديولوجيا السائدة في زمنه سيكون رهن الزائف من ذاكرة التاريخ، وهي مساحة تتسع لقتل أي حبة قمح تنبت خارج حقول الفساد.
بالنسبة إلى السياب، والخجل من بكائه العراق، فإن ما يبقى ماثلاً في ذهني لا يتجاوز مسلمة أن رهان السياب على التاريخ كان رهاناً تطبيقياً، بينما أجدني - وشعراء عرب آخرين - نولي وجوهنا شطر الرهان النظري، ونرى في عثرة العراق بداية لموال طويل وحزين تتوالى في العثرات، وتتواتر فيه أخبار الغزاة.
كان السياب يبكي عراقاً حاضراً في وعيه، ويشاهد مستقبل أرض الرافدين انطلاقاً من الآني الموجع في زمنه، فجاء ليكتب المومس العمياء، مشيراً إلى الدلالة تلو الدلالة على أن «تداول» العراق أمر يحصل وسيستمر حصوله، وأن «عماه» أمر لا ريبة فيه ولا اختلاف.
بالنسبة لي، وانطلاقاً من كوني لست عراقياً، كما أنني لا أبكي عراقاً واحداً بالضرورة، أرى الجانب النظري من مأساة سقوط بغداد أكثر جلاء، وأكبر حضوراً مما عداه، وفي «يرملون» شاهدت ما يخصني وحدي من دمار صار يمشي على قدمين وإن لم يقم باقترافه بشر، وقررت حينها أننا مستهدفون من قبل يدين اثنتين: يد تقية تحمل الصليب، ويد قُدت من فضة وجاءت للبحث عن النفط.«أرض السماوة ليست لنا، إننا عرب طيبون»
هي هي اللغة، وهو هو ذاته الشاعر في كل جهة من جهات الوطن العربي:
«سلامٌ على كل قلبٍ من الآه
ومن قضة لا تموت
ومن ساعد لا يجرب فينا هداه».
وأخيراً، بين التاريخ وبين السياب، يقف مبدأ تطوير الفكرة ثم تطوير الفكرة ثم تطوير الفكرة. أعني ضرورة أن ننظر إلى زاوية تخص «الشعر» بوصفه فناً، وبالتالي علينا أن ننتقل إلى فكرة «البكاء» بوصفه شعوراً، وأخيراً إلى ما يتنازعنا بين هذين الماثلين في وعينا - إن آمنا بوجودهما وإن بنسبة قليلة: الخوف والخجل).
حينها سندرك أن التأثير في واقع العراق حلم يقع خارج دائرة الفن، لأن الفن لا يخلق واقعاً. وعليه، لم يبق في يد «الشاعر» إلا أن يرصد ما هو كائن، بعيداً عن رصد التاريخ؛ هذا الرصد التوثيقي القائم على فكرة واحدة يتمثلها للكتابة عن كل حدث، ثم إن ما يقوله الفن، بوصفه أكثر رحابة مما يقوله التاريخ، يفتش عن المستقبل ابتغاء التخفف من وطأة الخوف أو الخجل، أو أي شعور قد يباغت قارئاً مستقبلياً يقرأ نصاً عن عراق اليوم، فيهتف بحزن: «يا الله، كل هذه المدن كانت بغداد ونحن لا ندري؟!».
راية المقاومة الشعرية
الشاعر عيد الحجيلي يصف ما يكتب عن العراق بالشعاراتية والخطابية وهذا جزء من الشرط التاريخي:
لا يستطيع المبدع، أو الإنسان بصفة عامة، أن يتحلل من شرطه التاريخي.. وأدواء واقعه.. المتعالقة مع انهمامه الذاتي المنبثق من ظلال كينونته بأبعادها الإنسانية والحضارية.
وفي خضم مجريات الواقع.. وشجونه.. يلتجئ المبدع إلى نافذته البيانية لتسريب الشحنات الشعورية الضاغطة.. المتولدة من رؤية ذلكم المبدع تجاه معطيات الواقع المماثلة..
ولو نظرنا إلي الشعر المتعلق بوصف الحالة العراقية.. والانفعال بها.. لوجدناه آهلاً بالفواجع والأنين على وطن جميل يرتعد بين أسياف متباينة.. وشعارات متناقضة.. كرأس مقطوع...
ومما يلحظ بجلاء على معظم ما كتب حول الوضع العراقي.. الوقوع في فخ الشعارات والخطابية.. والشعر السياسي المباشر أو شعر المقاومة بأفقه المغلق.. ودلالته المباشرة.. وفضائه المتآكل...
ولعل من أسباب ذلك.. النزوع إلى الخلاص الفردي من الشعور بوطأة الواجب.. والتعويض الصوتي/ المجازي عن العجز.. وفقدان القدرة.. أمام الفقد المتحقق.. والخسارات المنتظرة.. غير أن الانضواء تحت راية المقاومة الشعرية.. على حساب القيمة الفنية.. لا يعفي المبدع أو الشاعر من فريضة المقاومة الجمالية... ودورها في محاربة الشيخوخة الشعرية.. وآفة النمطية واحتلالها الغاشم لقيمة الشعر الفنية... فالشعر لا يُعنى بما يقول بقدر ما يُعنى بكيفية القول في إطار الشروط الفنية والجمالية.. إذ الكتابة الإبداعية لحظة منفلتة من سلطة الأنا القسرية.. وهي إصغاء للغة وتحرير لامكانياتها وليست إكراهاً لها.. ومن جانب آخر لا يمكن، في تصوري، فصل الراهن العراقي المؤلم، العابر بالضرورة، عن محيطه العام.. ودائرته الحضارية الكبرى.. ومأزقه الوجودي المقيم.. مما يستدعي مقاربة الوضع في إطاره الأكبر.. عبر المقاومة الحضارية.. المرتكزة على إشعاعات التاريخ.. والبعد القيمي للمكان.. وإمكاناته.. والحلم بالانعتاق من قيود الواقع المعيش.. والإصرار على تشكيل أو إعادة تشكيل تضاريس الكينونة الذاتية.. وتأثيثها بقيم العقل.. والترنم بفضيلة الحرية والتطلع إلى سماواتها المبتغاة.. بعيداً عن البكائيات.. والصخب الصوتي العقيم.
وخلاصة القول.. ان ما كُتب وما سيتكتب عن الحالة العراقية.. هو انعكاس للمنطلقات الفنية للذات المبدعة.. وفضائها الرؤيوي.. وقناعتها الجمالية.. بصرف النظر عن إفرازات الواقع الأليم.. ودواعي التعالق مع نواتجه وإحباطاته.. والشعور الإنساني/ الغريزي تجاهه.
لا خوفاً من التاريخ ولا خجلاً من السيّاب
الشاعر مروان الغفوري أشار إلى أن هذا البكاء هو محاولة لحبس واستشعار مهاراتنا في النحيب مستعرضاً مواطن ومزامن البكاء على العراق:
ربما - وأنا هنا أتحدث عن الناس من خلال أناي غير المستقرة - بكينا العراق حفاظاً على إرثنا من البكاء، وكمحاولة لجس واستشعار مهاراتنا في النحيب.
سيبدو لي السؤال، وبكثير من الود معه، شكلاً من أشكال البارادوكس. فنحن نبكي العراق، ومشتقاتها العربية، منذ أن أٍقيل سعد بن أبي وقاص عن قيادة جيشها الفاتح. ومنذ اختلف الفاتحون في نظرية «الخُمُس» وأقاموا أول اعتصام أمام الخليفة الثاني مطالبين باقتسام الأراضي بين مجموعة الفاتحين. منذ ذلك الحين، ونحن نبكي العراق.. لا خوفاً من التاريخ ولا خجلاً من السيّاب.
نبكيها، أيضاً، منذ وقف الإمام مالك أمام الناس ليقول: عاملوا أهل العراق معاملة أهل الكتاب، لا تأخذوا عنهم ولا تردوا روايتهم. ويبدو لي أن العراقي، ومن خلفه نحن، شاعراً وعاشقاً لم يضع لامته قط، فإن أرضه إن كانت مسورة بالبنادق (كما يقول الصائغ) فإنها تسوّرت من قبل ومن بعد بالحكام، كما يرى مطر، لتبدو العراقي غاربة وبلا عصابة على عينيها تقيها «الأرواح والدم». وربما، أيضاً، تسمِت حاضرة العراق «بغداد» بهذا المسمى (بغداد= مدينة السلام) لنفس السبب، وكمجلى من مجلات المصالحة العاطفية مع الأشياء، ومثل وسمنا للصحراء بالمفازة. وإذا كان اللسان يجعل من معنى كلمة بغداد «مدينة السلام» فإن اللغة المركبة لم تنس أن تقول: ان «بغدان» توطئة لغوية لحديقة الذل. (بغ= حديقة، د ان= ذل وخضع).
ومثل الكثيرين من الشعراء العرب وجدت نفسي أكتب «في البدء كانت المحرقة» وأتداخل مع السياب في «كل عام يا حبيبتي وجرحنا بخير».. وأنا، ربما، لا أعلم أن هذا البكاء هو ميراث الصحراء، وحساسية العربي المفرطة للأطلال. لم نختلف في هذا عن «ابن أبي سلمى» وقريته التي غيرتها الأرواح والديم، ولا عن «ابن الأبرص» الذي ألم بالحجاز، وبجواره نوقه، فجعل يرى نور الحجاز ليلاً، وعن بعد وتهمى عينه.. لكنه لم ينس أن يكابر: إن منزلاً نأت به هند إليّ بغيض.
إن «هنداً» و«المكان» هما الرؤية الشعرية التي ورثناها عن الصحراء. ولحسن حظنا لم يطل صبرنا على العراق، حاضرة العالم، حتى أوجد فيها الأعاريب - منذ السفاح وحتى صدام - معالم هذا الإرث.. وثمة وجدنا مآلنا الكافي للبكاء.
يخجلني ما لم أفعله
أما الشاعر فادي الخلف فذهب إلى أن التاريخ لن يستطيع تسجيل المرحلة التي يمر بها العراق.. ربما لقامة العراق وهيبته..!
العراق كما أعرفه - ويعرفني - شاعر عظيم، هو من صنع الجواهري والسياب والبياتي، ولم يصنعوه أولئك إلا رمزياً، إنه:
وطن مد على الأفق جناحاً
وارتدى مجد الحضارات وشاحاً
لم أزر العراق يوماً، وكم تمنيت ذلك، إلا أن تكويني مرتبط بالعراق بأكثر من وريد ويتنفس العراق بأكثر من رئة، فنشأتي الفراتية، والموسيقى العراقية وناظم الغزالي، والأبوذيات والمقامات، جعلت العراق شاعراً أسمر واسع الكف عريض المنكبين، على غرار شخصيات محمود درويش، يباركني أينما اتجهت ويزرع في كبرياء مراوغة، ويبكي على كتفي مع بزوغ كل جرح، أما وقد كثرت جراجه فقد ناديته في أحد نصوصي:
فنهراك جفا
وشطك شط المزار إليه
ونخلك تأكله الأغربة.
لا يخجلني ما فعلته أو قلته للعراق بل يخجلني ما لم أفعله - نفعله - قد يكون تعلقنا الحالي بالعراق بسبب قراءتنا الافتراضية للتاريخ، أو التاريخ البديل كما يسمى، والذي يستمد كيانه من رافدين مهمين: هما الأمنية والاحتمالات، دعني أفصل فقد وضعت يدك على الجرح، ماذا لو استعطنا أن نعيد عقارب السنين، وحتى أفاعيها، إلى سنين مضت.. ماذا لو شئنا (كلنا بشعرائنا، وكتابنا، وسياسيينا، ونسائنا وأطفالنا، وانهارنا وصحرائنا) أن نغير ما جرى، هل كنا سنقدر، أن نبدل التاريخ،
أن نعيد الدماء إلى الأوردة التي نزفتها
أن نعيد كل قطع الآثار المهربة
أن نعيد الأرملة.. لتصبح ذات زوج وعائلة
نصلح سقوف المنازل قبل موسم الأمطار والبرد
وأشد ما في هذه الفكرة ألماً وذلة وتوليداً للحيرة، أن الجواب: كان باستطاعتنا ذلك. بكاؤنا عند قدمي العراق (المعوقتين) ينبغ من هروبنا من تلك ال نعم التي ملكناها يوماً من التاريخ.
ربما لن يستطيع حتى التاريخ تسجيل المرحلة التي مر بها العراق، بتفاصيل الجرح كاملة، أنا شخصياً أشك أن التاريخ قادر على ذلك، ولا حتى من يصنعون التاريخ، أوافق من يقول أن التاريخ عموماً (كتب في ظروف مشبوهة) وأقل ما يقال عنها أنها غير نزيهة، ينطلق ذلك على التاريخ الذي نعيشه، لذا قد يكون العراق بسمرته العربية وبرؤيته للآتي هو الوحيد الذي يقدر أن يصف كل ذلك.
في دواخلنا لم يبق متسع من الأحزان لدينا لنفرد مساحة تخص العراق، ولن أهرب من الاعتراف بأن الهيبة التاريخية للعراق بقامته العظيمة، وذاكرتنا الجمعية الممتلئة بالروعة تجاهه، جعلته كذلك، وجعلت البكاء عليه يتخذ هذه الصورة.
وبصفتي شاعراً.. لم يجلبني الشعراء - ومنهم والدي السياب - إلى حب العراق على بساط الشعر السحري، فأنا أحبه ابتداء، إنما جعلوني أفهمه أكثر، وأعرف تفاصيله، وأتأقلم مع مزاجه المتقلب في الحزن والفرح.. والجرح).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.