لاشك أن مراكز القوى وتضارب المصالح وأسلوب عمل كثير من المؤسسات قد تغير بعد انتهاء مرحلة الحرب الباردة التي استمرت أكثر من نصف قرن بين المعسكر الشيوعي بقيادة الاتحاد السوفيتي قبل تفككه وانهياره من جهة وبين المعسكر الرأسمالي بقيادة الولاياتالمتحدة من جهة اخرى. نعم لقد تغيرت خريطة العالم بعد أن أصبح أحادي القطب وانفردت أمريكا بالقرار العالمي حيث فرضت سيطرتها ونفوذها وأجندتها طبقاً لمصالحها وفي الشرق الأوسط طبقاً لمصالح إسرائيل ثم مصالحها. إن المعطيات الجديدة التي فرضتها هذه القطبية جعلت السياسات والاستراتيجيات المتبعة في السابق لا تصلح لعصر ما بعد الحرب الباردة، وعليه فإن مهام مراكز الدراسات الاستراتيجية ووكالات المخابرات هبت عليها رياح التغيير، وأصبح أمام كل منها أهداف وغايات تختلف عما كانت تمارسه في السابق وهذا فرض مهام جديدة على كل من مراكز الدراسات الاستراتيجية التي تبحث في أحسن السبل لتحقيق المصالح القومية والوطنية لطرف ما وكذلك وكالات المخابرات التي توكل إليها مهام إحداث ثغرات في دفاعات الجانب الآخر حتى يتم من خلالها تحقيق إنجاز تلك المصالح. كل ذلك خلق حرباً من نوع آخر برزت بصورة واضحة إلى العلن، واشتد أوارها وأصبحت أهم معالمها الحرب التجارية والاقتصادية. نعم يخطئ من يظن أن الصراع بين الدول قد انتهى بانتهاء الحرب الباردة ذلك أن حروب المصالح كانت قائمة منذ الأزل وستبقى إلى الأبد ولكنها تأخذ أشكالاً وأنماطاً تختلف من عصر إلى آخر. والذي يزيد من غموض وشمولية هذا النوع من الحروب أنها لا تجري لحساب الدول فقط بل تتم في كثير من الأحيان لحساب الشركات الاحتكارية والمنظمات والأفراد النافذين. فالدول تسعى لكسب الحرب من أجل تحقيق مصالح خاصة يدعى في كثير من الأحيان أنها تخدم المصلحة العامة، أما الشركات فإنها تخوض الحروب من أجل تحقيق مصلحة خاصة أو لحساب طرف آخر قد يكون دولة أو منظمة أو أفراداً نافذين وهكذا تستمر الحروب بأشكالها ومسمياتها المختلفة، توجهها مصالح من يريد الهيمنة والتفوق المطلق، أو التخريب والإفساد في الأرض. نعم إن الدول الكبرى أصبحت هذه الأيام تصنع مصالحها الاقتصادية في أولويات أجهزة مخابراتها وذلك بسبب صعود أهمية العامل الاقتصادي في العلاقات الدولية وزيادة التنافس على المواد الأولية، والرغبة في الاستحواذ على الأسواق التجارية القديمة وفتح أسواق جديدة، لذلك أصبح جواسيس الاقتصاد أكثر أهمية من جواسيس الجيوش، وعليه فإن رجال المخابرات أصبحوا يبحثون عن أسرار التقنيات، والأجهزة المتقدمة الحديثة وتطبيقاتها، والمنشآت الاقتصادية القائمة، والموارد الاقتصادية الفعلية والمحتملة ليس هذا وحسب بل أصبحوا يبحثون عن أحوال الناس المعيشية وقدرتهم الشرائية، وبذلك أصبح التجسس الاقتصادي أهم بكثير من التجسس العسكري. إن التجسس الاقتصادي لا يقتصر على الدول المتحاربة أو المتصارعة كما هو الحال في التجسس التقليدي بل نجده يتم ويحدث بين الدول الصديقة والحليفة والسبب أن تحالفات القرن الجديد بدأت تتشكل وفقاً لحسابات الربح والخسارة، وهذه الحسابات ربما تدفع العالم إلى مشارف حرب باردة جديدة بدأت تظهرت بعض ملامحها بين أصدقاء وحلفاء الأمس وأنداد اليوم وأعداء الغد. إن التنافس بين القوى العظمى في سبيل التربع على عرش العالم أو استمرار التحكم فيه ولو الى حين هو العامل الرئيسي في تلك الحرب الضروس التي أخذت تدمج بين التقليدي والحديث وتتخذ من الضغوط والاعلام والمنظمات الدولية وسائل للوصول إلى أهدافها. نعم إن التجارة الدولية والمصالح الاقتصادية التي كان من المؤمل أن تكون بالنسبة للأمم رابطة محبة ووفاق وصداقة قد أصبحت بسبب العداء والكراهية والخلاف الذي يصل الى درجة شن الحروب، لذلك نستطيع أن نقول إنه لا يمكن لأية دولة من الدول إنكار أنها تسعى وتلجأ إلى مختلف الأساليب لمعرفة قدرة الخصم ومزايا منتجاته وتقنياته وحتى أساليب البيع والتسويق والتوزيع وغير ذلك من المعلومات التي تساعده في ميدان المنافسة، فالمصالح الوطنية أصبحت اليوم أكبر وأهم من الصداقات وحتى المعاهدات. لذلك فإن تحقيق النجاح في الحصول على ميزة أو مصلحة يعتبر من الأولويات بغض النظر عن الخسائر التي يمكن أن تلحق بالآخرين، والتي قد تكون فادحة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والوطني. وعلى العموم فإن لاحتدام الصراع الاقتصادي ضحايا عديدين يأتي في مقدمتهم الدول النامية التي تدفع الثمن مرتين سواء كانت المنافسة بين الدول الكبرى أو بين الدول النامية التي تحركها مصالح الدول الكبرى. فالمنافع دائماً يجنيها الأقوياء، أما الضعفاء فلا يبقى لهم إلا الفتات وحتى هذا يمكن أن يتقاتلوا عليه. إن الآثار والنتائج السلبية للحروب الاقتصادية قد تكون أشد وأقصى من الحروب العسكرية ذلك أن الحروب الاقتصادية تستعمل أسلحة تجارية فتاكة تدمر الدول من خلال الإجهاز على اقتصادها وبنيتها التحتية وبالتالي الحيلولة دون نموها أو نهوضها. ومن الأسلحة الفعالة في هذا المضمار الحصار الاقتصادي والاحتكار، وممارسة الضغوط الاقتصادية والاستحواذ على المقدرات من خلال التخويف بالاحتلال وتغيير نظام الحكم، أو اشعال الفتن الداخلية أو استخدام الإرهاب وسيلة وغاية. أما في الدول الديمقراطية فإن إسقاط الحكومة أمر في غاية السهولة وذلك من خلال المال والإعلام كما حدث ويحدث في بعض الدول هذه الأيام، نعم إن فتح جبهات داخلية وخارجية تلتهم مقدرات البلد المستهدف ومقوماته الاقتصادية والعلمية والاجتماعية وتقويض بنيته التحتية أمر مشاهد على أرض الواقع في كل حدب وصوب لا يسلم منه إلا من سمع وأطاع السادة المتربعين على عرش القمة العالمية والذين أصبحوا يتحكمون في مصائر الشعوب والذين أصبحوا يرغمون الآخرين على دفع الجزية دون تحقيق شروطها وبأساليب وطرق ملتوية لا تخلو من التهديد بأنواعه المختلفة. إن الخاسرين اليوم هم أولئك الذين لا يخططون للمستقبل ولا يستشرفون آفاقه الواسعة ولا يعدون له عدته من خلال توازن وعقلانية، فالمواجهة خاسرة والاستكانة أكثر خسارة وبالتالي لابد من انتهاج سياسة تحقق أكبر مكسب ممكن ضمن الظروف غير المواتية. فالهجرة المبرمجة على المنطقة وغياب التخطيط وزيادة عدد السكان وندرة فرص العمل وما يترتب على ذلك من مشكلات اجتماعية وأمنية يجعل المستكين لقمة سائغة للنظام العالمي الجديد. نعم إن احتدام الصراع على الأسواق، والصفقات، وإبرام العقود المحلية والدولية سوف يظل قائماً على الدوام فهو سمة العصر الحاضر والمستقبل لأنه صراع مصالح مهما تغيرت الأطراف والموازين التي تحكمه. وخير شاهد على صراع المصالح ما تتناقله وكالات الأنباء بين الحين والآخر من تصريحات معتدلة وأحياناً ملتهبة، واتهامات متبادلة، ومطالب متفاوتة حول الإغراق وايجاد منافذ جديدة لتصريف المنتجات والسلع خارج حدود الدول المنتجة. فأوروبا على سبيل المثال تخشى من الولاياتالمتحدة واليابان كما أن دول أوروبا تخشى بعضها البعض على الرغم من وجود مظلة الاتحاد الأوروبي الذي يذلل كثيرا من الصعاب، لذلك فأمريكا تخاف من الاتحاد الأوروبي لذلك عمدت إلى الغاء بعض الامتيازات التي كانت تتمتع بها المنتجات والسلع الأوروبية في السوق الأمريكية، كما ان أوروبا وأمريكا يخشيان العملاق الياباني الذي نافست وغزت منتجاته واستثماراته أسواق تلك الدول وذلك بسبب ما تتمتع به السلع اليابانية من قدرة تنافسية من حيث الأسعار والجودة. واليوم يظهر عملاق اقتصادي جبار بدأت تتذمر منه كل من أمريكا وأوروبا على حد سواء، ذلك هو التنين الصيني القادم وبقوة لا يشق له غبار. إن التنافس بين القوى الكبرى يخلق تكتلات اقتصادية عملاقة تتنافس وتتفاوض وتتصارع بأسلوب يمكن أن نقول عنه في الظاهر إنه ديمقراطي. أما بقية الدول وخصوصاً الدول النامية أو النائمة في كل من إفريقيا وأمريكا الجنوبية والشرق الأوسط بعربه ومسلميه فإنها لا تزال ترفع الشعارات الجوفاء التي لا تسمن ولا تغني من جوع. فالمثقفون ينظرون والزعماء يخطبون، والإعلام يطبل والمحصلة جعجعة بدون نتيجة محققة. نعم إن الأنانية، والاستعانة بالخارج أو المنافسة غير الشريفة والأفق الضيق من أهم العوامل التي تمنع الدول النامية من التكتل الاقتصادي الذي يجمعها ويحميها ويعزز من مواقفها عند التعامل مع الآخرين. لذلك فإن العقود القليلة المقبلة سوف تشهد بكل تأكيد انهيار قوى وبروز قوى أخرى جديدة نتيجة للصراع الاقتصادي الذي تدور رحاه في الظاهر وفي الخفاء والذي له مقومات أساسية هامة تتمثل في تحقيق مزيد من التقدم الاقتصادي والتطور التقني والاستحواذ على الأسواق والعقول، والسيطرة على مناطق الثروة واحتياطياتها ناهيك عن التمركز في المناطق الاستراتيجية الهامة. إن الغزو الاقتصادي والثقافي والفكري المدعوم بترسانة عسكرية هائلة والموجهة من قبل من لهم أطماع توسعية وخلق امبراطوريات تتبناها بمبادئ لا تطبقها هو أخطر أنواع الغزو وأقواها أثراً لأنه يلغي الخصوصية بجميع عناصرها ومفرداتها ناهيك عن الوطنية والانتماء. إن الجديد في المنافسة الاقتصادية الحديثة هو عدم قبول وجود الخصوم أو السماح لهم بتقاسم الغنيمة وبالتالي فإن البقاء سوف يكون للأقوى.. وهذا بدوره سوف يحارب كل من لا يخضع لتبعيته وهيمنته ولذلك فإن محصلة الحروب الاقتصادية سوف تعزز عدداً من الحقائق لعل أبرزها: ٭ الحروب الاقتصادية لها قدرة تدميرية كبرى لأنها تؤدي إلى تقويض البنى التحتية للخصم من خلال المقاطعة أو الاحتكار أو الحصار أو غير ذلك من الوسائل.. ٭ الطابع العام للحروب الاقتصادية يقوم على مبدأ إلغاء الآخر قدر المستطاع.. ٭ إن العقود القليلة القادمة تشير إلى احتمال تدهور قوى اقتصادية تقليدية وبروز قوى اقتصادية وعسكرية جديدة تلغي الاستقطاب باتجاه واحد وتخلق اقطاباً جديدة. ٭ إن التكتلات الاقتصادية الجديدة تقوم على أساس قاري مثل الاتحاد الأوروبي وتكتل أمريكا وكندا والمكسيك وتكتل دول جنوب شرق آسيا. ٭ إن الهاجس الذي يؤرق الدول المختلفة هو خشيتها من أن تخسر المنافسة للتواجد في كل الأسواق في كل الأوقات ولكافة السلع لذلك فهي تعمل الليل والنهار ومن خلال أجهزتها المدنية والعسكرية والمخابراتية والاقتصادية للمحافظة على مواقعها أو الحصول على مواقع جديدة. ٭ إن الحروب الاقتصادية يمكن أن تأخذ شكل الحروب العسكرية إذا اقتضى الأمر ذلك سواء كان ذلك بصورة غير مباشرة مثل حرب الخليج الأولى أو بصورة مباشرة كما حدث في حرب الخليج الثانية والثالثة. نعم إن الاقتصاد هو عصب الحياة وبدونه لا يمكن تحقيق التنمية في أية دولة من الدول.. لذلك فإن البقاء سوف يكون للأقوى اقتصادياً والأقوى اقتصادياً هو من يملك القدرة على التخطيط ويوكل الأمر إلى الأكفاء ويحقق تنوع مصادر الدخل حتى لا يقيد ضحية مصدر اقتصادي واحد قد يقاطع أو ينضب أو يستبدل أو يرخص أو يستولى عليه أو يحصل ما هو غير متوقع في محاور الاقتصاد العالمي وبنيته. إن مفاهيم القوة في عالم اليوم أصبحت مرتبطة بقوة العلم والتكنولوجيا اللذين يؤسس لهما التعليم بشقيه العام والعالي ناهيك عن الأداء الاقتصادي المتميز لذلك فإن الدول الناهضة والواعية تسعى للحصول على نتائج البحث العلمي والاكتشافات العلمية من خلال مختبراتها الذاتية ومراكز ابحاثها وجامعاتها وتعزيزهما لأنهما يعتبران محور التقدم ورأس حربته المتقدمة. لذلك فإن الحروب الاقتصادية الحديثة تسعى إلى التجسس على القطاعات البحثية، والصناعية، والزراعية، والتجارية، والخدمية، والأحوال الاجتماعية، والحاجات النفسية وسرقة العلماء المتميزين عن طريق الاغراء، ناهيك عن البحث عن مواطن الضعف والقوة لدى الخصوم. إن أهم الدول التي تمارس التجسس الاقتصادي في عالم اليوم هي أمريكا ودول أوروبا والصين واليابان.. ولاشك ان اسرائيل كانت ولا زالت تعطي التجسس الاقتصادي بكافة أنواعه وأشكاله أهمية قصوى ولا تستثني في ذلك أصدقائها وحلفائها فإسرائيل تتجسس على أمريكا في المجال الاقتصادي والعسكري والتقني.. أما تجسس إسرائيل على الدول العربية فهو شامل لجميع عناصر التجسس وذلك بغرض التخريب والاجهاض وبجميع الوسائل والسبل غير المشروعة بما في ذلك الإرهاب والفساد وغسيل الأموال وحرب المخدرات والاغتيالات وقتل العلماء والزعماء وتأجيج الفتن والنفخ في روح الطائفية والإقليمية والعرقية لذلك فهي تشعل الحرائق في كل حدب وصوب وعلى الرغم من معرفة ذلك إلا أن الأنظار والأقلام تؤطر وتنظر لعوامل أخرى.. إن ما تفعله إسرائيل يصب في مصلحتها فهي تخوض حرباً عسكرية واقتصادية واجتماعية ونفسية وتاريخية وجغرافية ضد كل المنطقة ومقوماتها. إن المصالح الاقتصادية تجعل الدول تتخلى عن أصدقائها إذا انتفت المصلحة معهم كما ان تلك المصالح تجعل الدول تتسامح مع أعدائها إذا كانت المصلحة الاقتصادية تقتضي ذلك.. إلا إسرائيل فإن لها مصلحة واحدة لا تتخلى عنها هو هدم كيان الأمة العربية والإسلامية مهما كلف ذلك من جهد ومال.. والله المستعان.. [email protected]