لا ينتهي الحديث عن التربية الجمالية لدى أبنائنا وبناتنا، ولا المطالبة بتنمية الحس الذوقي لديهم بطريقة جاذبة ومقنعة. ولعل مناداة الكثير من المثقفين والتربويين بإيلاء هذه التربية حقها من الاهتمام يعكس أهميتها في صوغ العاطفة وتهذيبها وخلق حس نقدي يتلمّس الجمال ويتعاطاه بوعي خلاق ينعكس على ذائقته وتشذيبها. وتعني التربية الجمالية وفقاً ل"شيللر" الطرائق والوسائل التي تتخذها الإدارة التعليمية لتنمية الحس الجمالي لدى الطفل، من خلال العمل الفني، وهي ليست مجرد تربية مدرسية، وإنما هي التي تصنع الأسس لتربية وعي متوازن للفرد. بل أكثر من هذا، إذ أنهت وطبقاً لدراسة في التربية الجمالية يمكن أن تكون أساساً لبناء شخصية أمة، بكل ما تحمله هذه الكلمة من القدرة على مواجهة المشكلات بمختلف تحدياتها، وذلك من خلال مجتمع يستطيع أفراده مزاولة حياتهم إبداعاً وسلوكاً تطبيقياً، وبصورة متوازنة. في كتابه "لقاءات مع أناس استثنائيين" يلفت "أوشو" إلى أننا نعلّم أولادنا الحساب، وليس الشعر. وإذا صادف وعلمناهم الشعر، نفعل ذلك بأسلوب مملّ، مسيئ للشعر، حتى إذا ما تخرّج التلميذ من الجامعة سرعان ما ينسى شكسبير وميلتون. حتى أنّ ذِكْر أسماء شعراء أمثال هذين، أو كاليداس. قد يتسبب له بلغثيان. ويمضي "شو" في تعليقه قائلاً: لم يتعلّم الطالب الشعر بأسلوب يحبّبه به، بل لم يعلّمه كيفية نظم الشعر، ولا أهميته في حياة بني البشر. لقد اتبعوا أسلوباً، يجعل من الشعر مكرهاً غير محبّب. ويحكي معاناته الشخصية فيقول: حتى أنا شخصياً صرت أتغيّب عن حضور صفوف الشعر، مما أضطر المدير إلى سؤالي عن سبب هذا التغيّب. وبكل بساطة أجبته: "أفعل هذا لأني لا أريد أن أفقد اهتمامي بالشعر، ولأني مدرك كل الإدراك، أنكم، أنتم الأساتذة، لا تملكون حسّاً شعريّاً، وحتى لم تعرفوا أهمية الشعر في حياتكم. حتى أستاذ مادة الشعر، الذي أشاركه رياضة الصباح، كل يوم، ما رأيته مرّة ينظر إلى الأشجار، أو يصغي إلى زقزقة العصافير، أو غروبها". ويختم "شو" في مقدّمته الغاضبة بقوله:إنّ أسلوب التعليم الجامعي يقضي على اهتمامات الناس بذواتهم، وعلى حبّهم للشعر، يجعل الحياة أشبه بسلعة. في الجامعة يعلموننا كيف نكسب المال لكنهم لا يعلومننا كيف نتعمّق بذواتنا، ولا كيف نعيش كل لحظة حتى النهاية. مثل هذا الجفاف في التعليم وغياب التعليم الإبداعي يتسبب في تدمير رهافة الروح ويخلق من الطالب روح مادية أشبه بالآلة التي لا تلتقي بالشاعرية في الحياة، وهو ما قد يفضي إلى شخصيات مشوهة لا تقدرّ الجمال في كل شيء بما فيها السلوك. ما تقدّم يقدّم الماحة بسيطة وعابرة عن أهمية التربية الجمالية لدى المجتمعات وأثرا في بث روح التسامح وتقبّل الآخر كما أنها تقضي على التشوهات الداخلية للنفس وتساهم في نبذ ثقافة الكراهية التي تجعل من البعض أشخاصاً ضارّين لأنفسهم ولمجتمعاتهم إذ لا يستقيم اجتماع العنف والكراهية والإقصاء مع روح مسكونة بالجمال والحس الذوقي الشفيف الرقيق. في كتابه "روح الشرائع " يشير مونتسيكو إلى رأي غريب للقدماء حول الطبائع فيقول: إن الموسيقى كانت ضرورية لأن طبائع الأركاديين الذين كانوا يسكنون بلداً كئيب الهواء بارِدَة، وإن أهل السّينت الذين أهملوا الموسيقى فاقوا جميعَ الأغارقة قسوةً، وإنه لم يكن من المُدُن قط، واحدة اقترف فيها من الجرائم كما في هذه، ولم يخش أفلاطون، قط أن يقول بتعذّر كلّ تغيير في الموسيقى لا يكون في نظام الدولة، وإن أرسطو الذي يلوح أنه لم يضع كتاب "السياسة" إلا ليعارض مشاعر أفلاطون بمشاعره، ليتفق وإياه، مع ذلك على سلطان الموسيقى على الطبائع". الأمثلة كثيرة على أثر هذه الفنون على الطباع والنفس ولعلّنا نحلم بيوم يأتي تدريس جيل أبنائنا ومن يليهم جميع هذه الفنون بطريقة جاذبة وإبداعية ليكونوا أعضاء نافعين لأنفسهم وأوطانهم.