تطرقنا في عدة مقالات سابقة إلى الشطحات التشكيلية الفنية التي اكتسحت السوق الغربي في المبيعات، ونخص منها تلك التي تصنع بأدوات غريبة، كاستخدام دماء البشر في التلوين أو جينات وراثية حية لصناعة أذن فان جوخ وغيرها من اتجاهات فنية معاصرة تتبع أسلوب "خالف تعرف"، وقد اعتقدنا أن الفنون التشكيلية هي التي تقوم بدور جوهري في الحضارة البشرية وان الفن ظاهرة إنسانية يتم تمثيلها رمزيا بأشكال تعكس ثقافة الفنان وارتباطه بالمجتمع الذي يعيش فيه، وأن الفنون التشكيلية هي التي عرفنا من خلالها التنوع المدهش في جذور وتطور الحضارات في العالم وصولا إلى عصرنا الحديث حيث اتسع مفهوم الفن فشمل حياة الناس ومع تطور التكنولوجيات والأدوات الحديثة تطورت الفنون لتصبح منتجات فنية قوامها الفكرة أكثر منها إبداعا، فنجد أن مفهوم الفنون في الوقت الحالي لا يقتصر على من يشاهدها بأن يقتنى تحفة فنية أو لوحة جميلة لتزين منزلة ويستمتع بذكاء ومحصلة خيال الفنان الذي ابدعها، بل هناك ما هو أبعد من ذلك. يعد الفنان البريطاني دامين ستيفن هيرتز "Damien Steven Hirts 1965"من أغنى فناني بريطانيا المعاصرين إذ قدرت ثروته عام 2010م بأكثر من مئتين وخمسة عشر مليون جنيه إسترليني حسب ما ورد في بيان "أغنياء أوروبا بجريدة أخبار الأحد البريطانية وهيرتز الذي فشل في الدراسة الأكاديمية ولم يكن ناجحا؛ ألا في مادة واحدة وهي الفنون بمعدل متوسط وقد عانت أمه في تربيته بسبب تصرفاته غير اللائقة لعمره، إذ أعتقل مرتين وهو صغير العمر لسرقتين ومع هذا كانت أمه التي تنحدر من عائلة دينية أيرلندية تتسامح معه وتشجعه على الشيء الوحيد الذي برع به في حياته وهو الفنون. ولم تكن حياته الدراسية سهلة فدراسة الفنون تتطلب نجاحه في مواد أخري لالتحاقه بالجامعة لتحصيل معدل في مجال الفنون وقد دفعه أستاذ الفنون للمرحلة الثانوية لتحصيل معدل متوسط حيث التحق بجامعة "جولد سميث بمدينة لندن" وفي عام 1983م عرض هيرتز أحد أعماله بأسلوب "الكولاج" وهى قصاصات من ورق لصقها بطريقة تجريدية واطلق عليها "أمحيني للأبد" حيث لفتت انتباه المشاهدين وبين عامي "1989-1986" درس هيرتز الفنون في جامعة "جولد سميث" بلندن حيث بدأ حياته الفعلية فنانا تشكيليا وكون جماعة تشكيلية تحمل اسم " فريز" أو التجميد باللغة العربية. والى هنا ربما مسيرة الفنان وسيرته معقولة، لم يكن هناك إلى الآن مردود مادي يذكر من ريع أعمال هيرتز الفنية إلى أن عرض عام 1991م عملا يعد فنياً إذا صح التعبير وهو عبارة عن سمك قرش محنط ويسبح في حوض زجاجي مملوء بسائل الفورما أو الفورمالين وهي المادة التي تستخدم في التحنيط لكى تمنع التعفن واطلق عليه اسم "الاستحالة الفيزيائية للموت في عقل شخص يعيش" حيث اشترى هيرتز القرش من صياد بمبلغ ستة آلاف جنيه إسترليني وبيع العمل بقيمة خمسين ألف جنيه إضافة إلى فوزه بجائزة وليام تيرنر للفنون. ومن هنا بدأ حظ دامين يتغير فقد بالغ في أعمال مماثلة تسبح في ذات الأحواض الكبيرة الحجم الزجاجية منها الأبقار والماعز ولعل أشهرها عرضه بقرة ومولودها في حوضين مختلفين في كل من بنيالي إيطالياوبريطانيا، ولم يكتف هيرتز بهذا بل أضاف لإحدى الأبقار قرونا من ذهب خالص وتنوع في إضافة أعضاء مماثلة للحيوانات الميتة، ورغم استياء بعض الزوار لمشاهدة هذه الأعمال وبعضهم الذي فر هاربا خارج قاعات العرض؛ إلاّ أنها تباع بملايين الجنيهات حيث كان أول مزاد أقامه هيرتز عام 2008م لمعرضه الذي حمل عنوان "جميل داخل عقلي دائما" قد باع من خلاله ما يقدر 111 مليون جنيه في الساعات الأولى للمعرض ووصل عدد زواره إلى 25 ألف شخص إضافة إلى اقتناء جميع متاحف بريطانيا المعروفة لأعماله وعرضها للجمهور. الحقيقة أن الفنون تكشف العلاقة بين الإنسان والمبادئ وتفسر التنوع الثقافي بين البشر وإذا كان علم الأنثروبولوجيا يكشف لنا اللثام عن تطور الفنون ونمائها وربطها وعلاقتها لكل عصر من العصور المختلفة حيث تعرفنا على الوعي السائد لكل حقبة تاريخية فنحن الآن أصبحنا في حيرة من أمرنا إذ يفترض أن الفن بمفهومه العميق هو استمتاع بالجمال هو الذي يتجلى بعناصر الإشراق والبهاء ويمتع من يشاهده بعين غنائية فيحلق معه ويفسره بلغة الفردوس وان الفن كنوز الشعوب الفكرية التي تنبع من الأجداد، فهل لنا أن نترك هذه السمات الجميلة التي تتحلى بها الفنون وبدلا من الاستمتاع بعمل فني جميل يحرك مشاعرنا ويثير ذائقتنا البصرية نستبدله بحيوانات ميته في منازلنا أو مبنى عام؟ نترك الإجابة للقارئ والمتذوق؟! من أعمال دامين هيرتز