في عصرنا هذا من السهل صناعة السيارة والطائرة، والباخرة ولكنه من الصعب صناعة الرجال الأفذاذ.. وأشهد أن معالي الدكتور خالد العنقري من أفذاذ الرجال.. تعرفت على الرجل في الأسبوع الأول من استلام مهامه كوزير للتعليم العالي.. ولقد دخلت عليه مسلماً، ومعتذرا عن العمل في بريطانيا بسبب مرض والدتي رحمها الله، والتي عدت بها من هناك.. وقلت إن وضع والدتي.. لا يسمح ببقائي هناك.. ولن أتخلى عنها وهي في هذه الحالة.. اهتزّ الرجل، وقال: كلا. تظل مع والدتك إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولا أما أن تترك الملحقية فلا.. خرجت من مكتب الرجل، مغموراً بكرمه ونبله، وإنسانيته، فلقد وجدت إنسانا قبل أن يكون مسؤولا، وأدركت لحظتها أن الوزارة سوف تدخل طوراً جديدا من أطوارها بإدارة هذا الرجل.. ومرت الأيام، وتتابعت، وازدادت علاقتي به وتمكنت، بسبب دعمه للملحقية، والمبتعثين، ومواقفه الرائعة، وكان أول لقاء له بالمبتعثين كان بمكتب لندن، وقد احتشد الطلبة، وأمطروه بالأسئلة والطلبات، وكان رحب الصدر، طلق المحيا، لطيف التعامل صادق الوعد معهم، إذ طلبوا إليه الرفع للمقام السامي لزيادة رواتبهم ومخصصاتهم، فكان لهم ما أرادوا ولبقية المبتعثين في الخارج.. ولقد اكتشفت في الرجل ثقافته الواسعة وحبه للمعرفة، والاطلاع، وما رأيته حين يزور لندن إلا طوافاً في المكتبات، ودور النشر، وأماكن بيع الكتب، والمخطوطات الإسلامية النادرة، والخرائط الأولى للجزيرة العربية، ومكتبته اليوم تنوء بهذه الفرائد النادرة. وقد انعكس ذلك كله على سلوكه، وتعامله فكان متواضعا إلى أبعد حدود التواضع، وما كان محبا للبهرجة والمظاهر.. ولقد كان صاحب نخوة ومروءة في مساعدة الآخرين، وبالذات مع الطلبة، فقد كانوا وكما أسلفت همه الشاغل، وقد وجدت منه العون والرِّفد في مساعدته، في مواقف كثيرة يصعب تعدادها، غير أني اضرب مثلاً لذلك حيث كنت استمر في الصرف على المبتعثين الجادين، والمتميزين، حتى وإن انتهت مدة البعثة، ولا أظل أنتظر وصول قرار التمديد، لأن ذلك يستغرق وقتا طويلا، وليس من المنطق ولا من الكياسة في حق الطالب والوطن أن أوقف الصرف عليه وعلى عائلته وأتركه في الفراغ المادي.. فهذا سينعكس سلبا على نفسيته وأدائه الدراسي وسيهز من ولائه الوطني، والدراسة عن طريق البحث لا يمكن أن تضبط بعقارب الساعة.. ومن ثم فلن أضيع الطالب واخسر وطنيته بسبب مبلغ مادي زهيد، واذكر أن عملي هذا أثار غضباً ولاقى رفضاً من جهات كثيرة لأنني بزعمهم تجاوزت النظام..!! وقد استُدعيت إلى ديوان الخدمة المدنية مرتين وقابلت فيهما معالي الاستاذ محمد الفايز وأعضاء اللجنة.. وظللت مصرا على موقفي، وكنت أجد مساندة وتأييدا ودعماً لهذا الموقف من معالي الدكتور خالد لأنه يدرك بحاسته الوطنية والعلمية أن العلم لا يوضع متعادلاً في كفّة ميزان المادة والبيروقراطية. أورد هذا الموقف كنموذج لمواقف رائعة بل لتاريخ حافل بالمواقف المشرفة والتي لا يمكن أن تختزل في مقالة. وللرجل مواقف رجولية وشهمة للعاملين معه متى تبين له جدهم وإخلاصهم، ولقد تعرض بعض الملحقين الثقافيين لمضايقات ومناكدات في عملهم من بعض الجهات التي تريد الوصاية عليهم والتدخل في شؤونهم وشؤون المبتعثين، فكان الرجل حازماً وشجاعاً في الذود عنهم، والوقوف إلى جانبهم ورفع معنوياتهم كي يؤدوا دورهم ويعملوا في جو من الثقة، والأمان النفسي والعملي.. وهذا يدل على شكيمة المسؤول القيادي، الواثق من عمله الحامي للرجال المخلصين معه.. وكنت أقول دائماً إنه من حسن حظي أن عملت مع رجلين نادرين هما: الدكتور غازي القصيبي رحمه الله والدكتور خالد العنقري.. والدكتور خالد مثله مثل كثير من المخلصين، الذين قد لا يسلمون من الإيذاء و التنغيس.. ولقد ابتلي الرجل ببعض الجحود من بعض من قربهم واصطفاهم..- وهم قلة -.. فحاولوا قلب ظهر المجن له، وكان يتعامل معهم بتسامح ومداراة، وصبر وحكمة، ولكنهم ظنوا أنهم قد بلغوا من المكانة ما يجعلهم فوق المحاسبة.. غير أن الرجل كان رجل دولة، يعرف متى وكيف يتخذ قراره في الوقت المناسب واللحظة الحاسمة، يعرف متى تلتقي:.. إرادته مع إدارته.. عند اتخاذ القرار الذي يراه في مصلحة الوطن والعمل.. وفوق ذلك كان صبوراً جلداً لا يظهر تذمراً و لا شكوى: قليل التّشكي للمصيبات حافظٌ من اليوم أعقاب الأحاديث في غدِ وهكذا يظل الرجل علامة مميزة في تاريخ التعليم العالي بالمملكة، بتفانيه وعمله الخلاق، وخلقه الرفيع، وسعيه الحثيث على النهوض بمستوى التعليم العالي.. كل ذلك بطبيعة الحال متمشيا مع أهداف وتوجيه خادم الحرمين الشريفين حفظه الله.. ولكن ما كل الرجال تتحمل المسؤولية، وقليلون هم أولئك الاكفياء النبلاء، وأظنه ربما كان الوزير الوحيد الذي يجلس على كرسيه يومياً من الساعة السابعة، ويفتح مكتبه للمراجعين الذين تتراوح أعدادهم من الثلاثين إلى المئة حسب إفادة سكرتيره الأستاذ عبدالطيف الفارس يجلس لهم أحياناً أكثر من ثلاث ساعات.. يستقبلهم بالترحاب والبشاشة والعون ما أمكنه إلى ذلك سبيلا.. وحري بي أن أقول ثمة رجلان سيذكرهما تاريخ التعليم العالي بإجلال وهما: الشيخ حسن بن عبدالله آل الشيخ رحمه الله، والدكتور خالد العنقري. وأرجو ألا يفهم من حديثي هذا بأني أزعم أن الرجل مبرأ من الخطأ البشري.. كلا فالرجل يخطئ ويصيب ولكن صوابه أكثر، ونيته للخير صادقة صافية خالصة.. وفقه الله أينما كان، وسوف يظل ذكره يتضوع مسكا معرفيا في أجواء تعليمنا العالي.. وأعان الله خلفه الدكتور خالد السبتي فمهمته شاقة، ومضنية وصعبة، ولكن همته، ستتغلب - بحول الله - على كل التحديات والصعاب وستجعل منه خير خلف لخير سلف بعون الله وتوفيقه.