| جاءني يشكو من غدر الزمان وتقلب حال الإخوان، وعدم ثقته بمن وهبهم الود الصادق فجازوه بالغدر والخذلان، ثم أعلن اعتزاله مجالس الأصحاب، واختيار (الوحدة) كحل يبعده عن القلق وأخطار الزلل. لم اشأ مجاراته بتأييد قراره الصعب، حيث إني من قوم يؤمنون بالمثل الشعبي : (أرض بلا ناس ما تنداس) وفي (الوحدة) معاناة ومتاعب تشبه ما يعانيه نادي (الوحدة) الرياضي في وقتنا الراهن، لذا فضلت اتباع الأسلوب التوعوي كي أثنيه عن قراره وأعيده الى (حظيرة) الأصدقاء كي يعيش مع (الناس)!. قلت له : (لا تحزن)، فالحياة هكذا.. خليط عجيب من الخير والشر، والوفاء والجحود، والبراءة والمكر، ومن خلال تعاملك مع البشر تكتشف معادن الرجال، لتختار المعدن الأصيل، فلم يخل زمان من الطيبين، المهم أن تعرف كيفية التعامل مع الآخرين، ولن تجد عندي من النصح سوى ما وعيته عن (الجاحظ) الاديب الشهير المتوفى عام 255ه علَّ فيما قاله ما يفيدك ويصلح شأنك. يقول (الجاحظ) في رسالة (المعاش والمعاد): (اعلم انك ستصحب من الناس اجناساً متفرقة حالاتهم، متفاوتة منازلهم، وكلهم بك اليه حاجة، وكل طائفة تسدُّ عنك كثيراً من المنافع لا يقوم به من فوقها، ولعلهم مجتمعون على نصيحتك والشفقة عليك، فمنهم من تريد منه الرأي والمشورة، ومنهم من تريده للحفظ والأمانة، ومنهم من تريده للشدة والغلظة، ومنهم من تريده للمهنة. وكل يسد مسده على حياله، ولا تخلين أحداً منهم عظم قدره أو صغرت منزلته من عنايتك وتعهد بالجزاء على الحسنة، والمعاتبة عند العثرة، ليعلموا أنهم منك بمرأى ومسمع، ثم لا تجوزنَّ بأحد منهم حده، ولا تدخله فيما لا يصلح له، تستقم لك حاله، ويتسق لك أمره..). | هل وعيت هذا الجزء من مقالة (الجاحظ)؟ اني اراه مدخلاً لمعرفة (فن التعامل مع الآخرين).. واليك (الزبدة) من كلام العقلاء الواعين. والكلام أيضاً للجاحظ: (واعلم انه سيمر بك في معاملات الناس حالات تحتاج فيها الى مداراة أصناف الناس وطبقاتهم، يبلغ بك غاية الفضيلة فيها، وكمال العقل والأدب منها: أن تسالم أهلها وتملك نفسك عن هواها، وتكف من جماحها بالأمر الذي لا يحرجك في دينك ولا عرضك ولا بدنك، بل يفيدك في عز الحلم، وهيبة الوقار، وهي امور مختلفة، تجمعها حال واحدة. منها : أن تأتي محفلاً فيه جمع من الناس، فتجلس منه دون الموضع الذي تستحقه حتى يكون أهله الذين يرفعونك، فتظهر جلالتك وعظم قدرك، ومنها : أن يفيض القوم في حديث، عندك منه مثل ما عندهم او افضل، فيتنافسون في اظهار ما عندهم، فإن نافستهم كنت واحداً منهم، وان امسكت اقتضوك ذلك، فصرت كأنك ممتن عليهم بحديثك، وأنصتوا لك ما لم ينصتوا لغيرك. ومنها : أن يتمارى جلساؤك والمراء نتاج اللجاجة وثمرة أصلها الحمية فإن ضبطت نفسك كان تحاكمهم اليك، ومعولهم عليك). لله درَّ اديبنا (الجاحظ) كأنه يعيش بيننا، ويصف حالة بعض مجالسنا التي لم تعد مغرية للعقلاء من الناس!. أخيراً | أقول لصاحبي المُصاب بسهام غدر من توسم فيهم نبل الأصحاب : (لا تكن رهين الغلطة الأولى، تجاوزها، وسر نحو (الصواب). لا أحد لا يخطىء، غير أن العاقل من تعلم من خطئه، لا تدع الزمام في يد جاهل لم يحسن التصرف في الدروب الشائكة فيقودك الى الهلاك. ومن المؤسف مطاوعة الخبيث ومماشاته في (درب الزلل) .. انه لا يود الا ان تكون مثله في الخبث والمكر والدهاء. اختر من تتوسم فيه الخير والفضيلة. وتوكل على الله .