لكلِّ محبٍّ لطيبة الطيبة، وحرمها الشريف، ولكلِّ مَن عشق ثراها الطاهر المبارك أخطُّ كلماتي، بعد أن اطّلعتُ على كتاب بعنوان (طيبة وفنها الرفيع) للمهندس الدكتور حاتم طه، تحية مداد القلم لهذا الجهد والعمل الذي وثّق فيه ابن المدينة البار جزءًا من تاريخها المعماري المجيد. تنقلتُ بين الصفحات وروحي تشتاق لهواها، ولجوار سيد المرسلين عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، فعشقها يتغنّى به كل مسلم على وجه الأرض. هي مدينة الحب والإيثار، كما هي مدينة الإيمان الخالد والهدى والتقى والحضارة والفن الرفيع. توقفتُ كثيرًا عند الصور التوثيقية التي جعلتني أغمض عيني لأعود بذاكرتي إلى أيام الطفولة الجميلة، فتخيّلتُ تلك المساجد والبيوت القديمة برواشينها وشوارعها الضيّقة، وتذكّرتُ بيت جدي الذي نشأتُ فيه في الزاهدية والمركاز، الذي كان للعمدة وشيخ الحارة عند الباب، وتذكّرتُ جيرانًا لنا في ذلك المكان لا تغيب صورهم عن خيالي. ذلك الماضي كان جميلاً بكل معاني الجمال.. الروح كانت فيه متألقة في سماء الكون الفسيح، والبيوت المتواضعة، وصوت الأذان من الحرم النبوي كان يصل إلى أسماعنا، وخاصة في صلاة الفجر، حيث الهدوء والسكينة والروحانية تعم الأرجاء، كان نومنا في ليالي الربيع في سطح المنزل نترقبه لنسعد بتأمل النجوم والقمر، ونستمتع بالهواء العليل لطيبة المباركة. جميلة هي بيوتنا القديمة، لم تكن قصورًا فارهة ولم تتزين بأغلى الأثاث، ولكنها كانت عامرة بالحب والجمال. وبمناسبة المدينة عاصمة الثقافة الإسلامية، ونحن على أبواب عام ميلادي جديد اختير لهذه المناسبة نأمل من الجهات ذات الاختصاص تعزيز الثقافة المعمارية للمدينة النبوية لدى جيل اليوم، الذي لم يعرف كثيرًا عن تاريخ هذه المدينة العريقة، ليعلم ماذا فعل المسلمون الأوائل من أجل مدينتهم التي أحبوها، وكيف توالت السنون، وتعاقبت الأجيال، وبقيت طيبة مهوى الأفئدة، تحكي لنا قصص العشق والحب الخالد عبر أناس أتقنوا وأحسنوا في أداء عملهم، وفي كل شؤون حياتهم، فبقيت آثارهم شاهدة على حياة عاشوها على هذا الثرى الطاهر الطيب. حضارة إسلامية لمدينة هي ثاني المدن المقدسة، وعلى ثراها ثاني مسجد تُشد إليه الرحال، حقها كبير، وواجبنا نحوها لا نستطيع أن نوفيه إلى آخر لحظات العمر، ولكن لها علينا بذل جهد المقل لنتحدث عن مسجدها العامر بالزوّار، وآثارها الباقية ما بقي الزمان، ومواقع تاريخية شهدت مواقف جليلة للرسول الأكرم عليه الصلاة والسلام. ما أروع شموخك يا جبل أحد، فوالله ما مررتُ بجوارك إلاّ واقشعرّ بدني، واستشعرتُ حبك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وسألت نفسي: هل أدّينا حق حبنا لنبي أكرمنا الله بجواره؟ وهل عبرنا عن حبنا له كما عبرت أنت عندما اهتزت أركانك حبًّا وفرحًا بنبيٍّ وقف فقال: اثبت أحد. في مدينة الحبيب مساجد، وبيوت ذات رواشين، وأحجار قاومت عوامل الزمان، تأمّلتُ صورًا لمسجد العنبرية والغمامة بأحجار بازلتية تم تطويعها لبناء معماري متميّز لتلك المساجد، وصورًا لمحطة سكة حديد الحجاز كمعلم تاريخي بارز، كلها آثار باقية ما بقي الزمان. توقّفتُ عند خاتمة الكتاب، وتأمّلتُ فيها كثيرًا: (بقيت طيبة، وزال فنّها الرفيع.. كانت طيبة، وكان فنها الرفيع.. أصالة طيبة وفنها الرفيع). ستبقى طيبة -بإذن الله- رمزًا للجمال الروحي، والفن والإبداع الإنساني، كما هي مأرز الإيمان، ومهوى الأفئدة، ومثوى سيد المرسلين، ومحط أنظار كل المسلمين المحبين العاشقين المتلهفين للجوار والموت على ثراها الطاهر. اللهم ارزقنا فيها عيشة هنية، وميتة سوية، ولا تحرمنا شفاعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. [email protected]