حقوق الإنسان والمطالبة بالحريات الشخصية وصيانتها وحمايتها أصبحت من قضايا الساعة، وذريعة يتذرع بها المستعمرون الجدد في الساحة العربية بصفة خاصة والإسلامية بصفة عامة للتدخل في الشؤون الداخلية للدول الإسلامية، ومحاولة توجيه نمط الحياة والسلوكيات الاجتماعية على ضوء ذلك. وللأسف نجد أن كثيرًا من وكلاء الغرب واتباعهم ومزاميرهم يرددون هذه الأسطوانة، دون دليل يذكر أو حجة تظهر. ومن يقرأ تلك الرؤى والأفكار يظن أننا عالم نعيش في غابة لا يحكمها نظام ولا تستند إلى مرجعية، وفي ظل هذه العاصفة يخلط كثير من أبناء الإسلام حين يكتبون عن هذا الموضوع بين المنهج والمبدأ، وبين التطبيق والممارسة، ويتناسون الحقائق الدامغة والوقائع الراسخة الثابتة. وأن الحرية الغربية حرية غير مقيدة بضوابط شرعية ولا تحدها حدود أخلاقية، فهي حرية مطلقة، قريبة الصلة والوصف من حرية البهائم. إن الإسلام وهو الدستور الذي نستظله ونعيش في كنفه وهو مرجعيتنا ونظامنا، لا يعرف التناقض والتعارض بين الحقوق المكفولة للإنسان كفرد وبين حقوق الجماعة، لأنه ينظر للفرد بعين الجماعة وينظر للجماعة بعين الفرد. ويسير على منهج واحد يحمي فيه مبادئ وقيمًا راسخة وعميقة الجذور، وأجزم بأنه لا يستطيع أن يأتي مدع في أي منظمة من منظمات حقوق الإنسان في الدول الغربية بحالة واحدة فيها تناقض بين الحق والواجب على الإنسان في المبادئ الإسلامية. بعكس ما هو موجود في الغرب وأنظمته من تناقضات فاحشة وتطبيقات مستوحشة، ومع كل ذلك ينعقون بحقوق الإنسان وحريته! فالعلاقات الإنسانية في الإسلام مبينة على القيم والمبادئ الأخلاقية بين الرئيس والمرؤوس والحاكم والمحكوم، ورب الأسرة وأفرادها، وبين الفرد والمجتمع، وكل ذلك في نظام دقيق لا يعرف التناقض ولا التعارض، فلا مصلحة لأحد تهدر مقابل مصلحة تتحقق للآخر إلا بوجود مسوغ شرعي، بينما نجد أن الزوج والزوجة في الغرب لا يمكن أن تجد مبادئ واضحة ونصوصًا صريحة في تنظيم علاقة بعضهما مع بعض، فحرية الزوجة وحقوقها من شأنها ان تنتهك حقوق الزوج وتذيبها في مصلحة حق المرأة وحريتها، حتى تصل إلى انتهاك أمور تمس الأخلاق والعرض وعقد صداقات مع الآخرين، أما الإسلام فيأمرها بوجوب حفظ عرضها وطاعة الزوج في كل ما يأمرها به إلى أبعد الحدود، ما لم يأمرها بمعصية لله، ففي شأن عظم حق الزوج على الزوجة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو أمرت أحدًا أن يسجد لأحد لأمرت الزوجة أن تسجد لزوجها" وبالمقابل فإن حقوق الزوجة على زوجها تنتهك تمامًا، فحقوقها في الغرب مهدرة، مقابل تمتع الزوج بحقوقه الخاصة الممنوحة له في النظام الغربي. مع أنه في الإسلام مأمور برعاية الزوجة وصيانتها فلها عليه مثل ما له عليها، قال الله تعالى: "وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ" والزوج مكلف بتأمين الأكل والسكن والملبس، وكل نفقاتها التي تحتاجها كزوجة، بل ان من أوجب الواجبات عليه أنه مكلف بإعفافها وإحصانها فإن لم يستطع في شيء من ذلك وجب عليه تسريحها ان طلبت ذلك، وهذا حق من حقوقها، فهل في الغرب حقوق متوازنة كهذه؟ وفي الغرب نجد أن حقوق الأبناء وحرياتهم تضيع في سراديبها ودهاليزها حقوق الآباء، فالأبناء حينما يمارسون حقوقهم تجاه الآباء تجدهم في منأى عن تلك الحقوق المفترضة عليهم لآبائهم، فبعد سن معين يخرج الابن أو البنت من عباءة الأب وطاعته ويمارس حياته الطبيعة بل البهيمية كيف يشاء، وليس للأب حق أن يتدخل في توجيه سلوكياته وأخلاقياته وضبطها ومراقبتها. فلا يجد الآباء نصوصًا تحمي حقوقهم على أبنائهم أو تعطيهم حق مراقبة وتعديل سلوكهم، والحاكم حقوقه الواجبة والشرعية منقوصة تجاه المحكومين فطاعته في كثير من الأحيان منتهكة بزعم الحرية وحقوق الأحزاب المعارضة، أما في الإسلام فإن طاعة ولي الأمر من طاعة الله ومن كمال الإيمان والدين، وقد قال الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ" فولي الأمر له على الرعية الطاعة والإخلاص في النصيحة والتعاون ولهم عليه حق إقامة العدل والمساواة بينهم وأن يحمي حياض الدين ويذود عن ثغور الوطن وتأمين معاش الرعية. الجار في الغرب ليس هناك نص واحد يحميه أو يفرض على الجار تكريم جاره وعدم أذيته، انظر إلى أن الإسلام يمنع المسلم من رفع البناء الذي يتأذى به الجار، بل ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه" وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره". ولعلنا نكتفي في هذا المقام بهذا الحديث عن حقوق الجار، يقول رسول اللَّه عليه أفضل الصلاة والسلام: "أتدرون ما حق الجار؟ إن استعان بك أعنته، وإن استنصرك نصرته، وإن استقرضك أقرضته، وإن افتقر عدت عليه، وإن مرض عدته، وإن مات تبعت جنازته، وإن أصابه خير هنأته، وإن أصابته مصيبة عزيته، ولا تَسْتَعْلِ عليه بالبناء فتحجب عنه الريح إلا بإذنه، وإن اشتريت فاكهة فأهدِ له، فإن لم تفعل فأدخلها سرًّا، ولا يخرج بها ولدك ليغيظ بها ولده، ولا تؤذه بقتار قِدْرِك إلا أن تغرف له منه، ثم قال: أتدرون ما حق الجار؟ والذي نفسي بيده، لا يبلغ حقَّ الجار إلا من رحمه الله" فهات نصًا في القوانين الوضعية ومنظمات حقوق الإنسان المزعومة كهذا؟ الشريعة الإسلامية حددت علاقة وحقوق الإنسان مع ربه في الحديث الشريف الذي رواه البخاري ومسلم: عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار، فقال: "يا معاذ، هل تدري ما حق الله على عباده؟ وما حق العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "فإن حق الله على العباد أن يعبدوه، ولا يشركوا به شيئًا، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئًا" فقلت: يا رسول الله، أفلا أبشر الناس؟ قال: "لا تبشرهم فيتكلوا" متفق عليه. فهل في نصوص منظمات حقوق الإنسان نص كهذا. حقوق الإنسان التي جاء بها الإسلام تنص على كرامة الإنسان وحفظ ما له وما عليه حتى في اشد الأوقات العصيبة أثناء المعارك والفتوحات. ولسنا هنا بصدد الحديث عن العلاقات الدولية في الإسلام فبابها واسع ومبادئها وقواعدها سامية ونبيلة. ويمكن تلخيص الأمر وإجماله تحت قاعدة واحدة وهي أن حقوق الإنسان في الإسلام كلها دون استثناء تدعو للفضيلة والكرامة وحماية الأخلاق وصيانتها وتخاطب الروح والسمو الإنساني والنبل الأخلاقي، فترتقي بالإنسان الفرد والمجتمع نحو الكمال والترقي والصفات السامية. أما حقوق الإنسان التي يدعيها الغرب ويروج لها كثير من أتباعهم الليبراليين في الساحة العربية والإسلامية فهي في معظم نصوصها وفي غالبية مبادئها وفي أكثر مناهجها تدغدغ النزوات واللذات وتخاطب الجسد وملذاته فتهبط به نحو الرذيلة والانحلال، والفوضى والابتذال، مهما حاولوا ومهما أرادوا أن يصبغوا وجهها بصبغة الحضارة والرقي، فالتعاملات المالية بدون ضوابط شرعية فبأي طريقة تستطيع كسب المال فلا حرج ولا مانع يحول دون ذلك، فالربا جائز ومهور البغايا نوع من الأنشطة المتاحة ودور الدعارة مرخصة ومصرح بها، والفقراء والمساكين لا حق لهم في تلك الأموال التي في أيدي الأغنياء لأن الضرائب التي تفرضها تلك الدول على مواطنيها لها مصارف ليست كمصارف الزكاة الشرعية، فمهما حاولوا أن يصبغوا نصوص حقوق الإنسان التي وضعوها بصبغة السمو والكمال فإن ذلك أمر دونه خرط القتاد. حقوق الإنسان في الإسلام أن تحكمه حكومة وولاية راشدة وعادلة، تقيم حدود الله تعالى وتنشر المساواة والعدالة بين المواطنين، أما في المبادئ الغربية فهم يرونها أنها تتمثل في ولاية منتخبة بالأكثرية لتعبر عن رأي الغالبة، ولا يهم بعد ذلك كيف يكون حكمها ظالمًا وفاسدًا أو متهورًا ومتخبطًا طالما أنها تمثل الغالبية. إنني أعجب من هؤلاء الذين من جلدتنا المخدوعين بما يرفعه الغرب من شعارات زائفة كسراب بقيعة وظل زائل، حينما يطالبون بذلك النهج الغربي دون تدقيق أو تمحيص فالحريات والحقوق التي يعلنها الغرب ويدعمها تدعو للانسلاخ من الأخلاق. لا يحكمها إلا ضابط المصلحة والنزعة الشخصية. فأينما تكون مصلحتك تمارس حريتك ولو كان ذلك على حساب انتهاك حقوق الآخرين. ولعل أولئك المخدوعين يخلطون بين النصوص الشرعية التي تضمنت المبادئ والقواعد والضوابط الشرعية التي تبين الحقوق المكفولة فيها للفرد والمجتمع وبين التطبيق الخاطئ الذي يحدث في بعض الأحيان، سواء على مستوى الحكام أو الأفراد، والنظر من هذه الزاوية يؤدي إلى الخلط، ولو افترضنا وجود الخطأ في التطبيق إلا أنه لا يبرر ذلك الخلط، فالتطبيق حتى في الغرب مع أن النصوص الوضعية في الأساس قاصرة وعقيمة إلا أن التطبيق لا يكون كما يراد له. وما يحدث من خطأ في التطبيقات في الدول الإسلامية لا يعدو أن يكون خروجًا استثنائيًا من المنهج العام، وهو خروج يحدث في كل زمان ومكان، فمن المعلوم والثابت أن التطبيق للمبادئ والقيم والأنظمة والقوانين ما كان يومًا من الأيام في كل مكان وزمان قائمًا ومستمرًا على وتيرة واحدة، فلا بد من وجود حالات استثنائية تكون مخالفة وشاذة عن القاعدة. يخرج من خلالها ذلك الإنسان فيعتدي على حق الغير، وفي هذه الحالة يكون حكمها للقضاء المختص سواء كان الانتهاك من حاكم أو فرد أو زوج أو غيره، فتتم محاكمته ومقاضاته وفقًا للحالة، أما أن تتم المطالبة برفع يد الحاكم ويد الزوج ويد رب الأسرة وغل يد المجتمع بأسره عن ممارسة حقوقه مقابل أن يتمتع الأفراد كل مستقل بذاته بكامل الحرية بمفهومها الغربي فإن ذلك انسلاخ عن الدين والقيم والإنسانية نفسها. وليس من الحقوق أو الحرية.