"الترفيه" تنظم عروض "سماكداون" و "ملك وملكة الحلبة" في جدة الشهر الجاري    «الأونروا»: الصراع في غزة مستمر ك"حرب على النساء"    محمية عروق بني معارض.. لوحات طبيعية بألوان الحياة الفطرية    اليوم المُنتظر    «النصر والهلال» النهائي الفاخر..    بأمر الملك.. إلغاء لقب «معالي» عن «الخونة» و«الفاسدين»    أبها يتغلب على الاتحاد بثلاثية في دوري روشن وينعش آماله في البقاء    عقد المؤتمر الصحفي لبطولة "سماش السعودية 2024" في جدة    جريمة مروّعة بصعيد مصر.. والسبب «الشبو»    أمانة الطائف تنفذ 136 مبادرة اجتماعية بمشاركة 4951 متطوعًا ومتطوعة    رئيس مجلس القيادة الرئاسي يوجه بسرعة العمل على فتح الطرقات وتقديم المساعدة    المملكة وأذربيجان.. تعاون مشترك لاستدامة أسواق البترول ومعالجة التغير المناخي    صدور بيان مشترك بشأن التعاون في مجال الطاقة بين المملكة وجمهورية أذربيجان    موعد مباراة الاتحاد القادمة بعد الخسارة أمام أبها    ميتروفيتش: لم نحسم لقب الدوري حتى الآن    إدانة المنشأة الغذائية عن حادثة التسمم الغذائي وإغلاق فروعها بالرياض والخرج    "درع الوقاية 4".. مناورات سعودية – أمريكية بالظهران    بعد نحو شهر من حادثة سير.. وفاة نجل البرهان في تركيا    توسيع نطاق الاستثناء الخاص بالتصرف العقاري    31 مايو نهاية المهلة المجانية لترقيم الإبل    نمو الغطاء النباتي 8.5% بمحمية "الإمام تركي"    مدير «الصحة العالمية»: الهجوم الإسرائيلي على رفح قد يؤدي إلى «حمام دم»    غداً.. منع دخول المقيمين لمكة دون تصريح    تركي الفيصل يرعى حفل جائزة عبد الله بن إدريس الثقافية    «الدفاع المدني» محذراً: التزموا البقاء في أماكن آمنة وابتعدوا عن تجمُّعات السيول    موعد مباراة الهلال القادمة بعد الفوز على التعاون    المعرض السعودي للإضاءة والصوت SLS Expo 2024 يقود التحول في مستقبل الضوء الاحترافي والصوت    الشرطة تفرق اعتصاما مؤيدا للفلسطينيين في معهد الدراسات السياسية بباريس    الفوزان: : الحوار الزوجي يعزز التواصل الإيجابي والتقارب الأسري    رئاسة وزراء ماليزيا ورابطة العالم الإسلامي تنظِّمان مؤتمرًا دوليًّا للقادة الدينيين.. الثلاثاء    جامعة الإمام عبدالرحمن تستضيف المؤتمر الوطني لكليات الحاسب بالجامعات السعودية.. الأربعاء    "ريف السعودية": انخفاض تكاليف حصاد المحاصيل البعلية بنسبة 90%    الجمعية السعودية للإعاقة السمعية تنظم "أسبوع الأصم العربي"    الصحة العالمية: الربو يتسبب في وفاة 455 ألف إنسان    إشعار المراسم الملكية بحالات سحب الأوسمة    سحب لقب "معالي" من "الخونة" و"الفاسدين"    تحويل حليب الإبل إلى لبن وإنتاج زبد يستوقف زوار مهرجان الألبان والأغذية بالخرج    الذهب يتجه للانخفاض للأسبوع الثاني    " عرب نيوز" تحصد 3 جوائز للتميز    "تقويم التعليم"تعتمد 45 مؤسسة وبرنامجًا أكاديمياً    "الفقه الإسلامي" يُثمّن بيان كبار العلماء بشأن "الحج"    المملكة: صعدنا هموم الدول الإسلامية للأمم المتحدة    وزير الدفاع يفتتح مرافق كلية الملك فيصل الجوية    وفيات وجلطات وتلف أدمغة.. لعنة لقاح «أسترازينيكا» تهزّ العالم !    ب 3 خطوات تقضي على النمل في المنزل    انطلاق ميدياثون الحج والعمرة بمكتبة الملك فهد الوطنية    الخريجي يشارك في الاجتماع التحضيري لوزراء الخارجية للدورة 15 لمؤتمر القمة الإسلامي    136 محطة تسجل هطول الأمطار في 11 منطقة بالمملكة    قصة القضاء والقدر    كيفية «حلب» الحبيب !    من المريض إلى المراجع    أمير جازان يطلق إشارة صيد سمك الحريد بجزيرة فرسان    بيان صادر عن هيئة كبار العلماء بشأن عدم جواز الذهاب للحج دون تصريح    نائب أمير الرياض يؤدي صلاة الميت على عبداللطيف بن عبدالرحمن آل الشيخ    مباحثات سعودية فرنسية لتوطين التقنيات الدفاعية    ما أصبر هؤلاء    هكذا تكون التربية    اطلع على المهام الأمنية والإنسانية.. نائب أمير مكة المكرمة يزور مركز العمليات الموحد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الوفاءُ لِلأُمِّ شِعْرًا
نشر في المدينة يوم 16 - 03 - 2011

يُطالعنا شاعرُ الجنوبِ السُّعُودي حسنُ محمد الزهراني بديوانٍ مُستقلٍّ نضَّده في أُمِّه بعنوان: (ريشة من جناح الذل) والذي ترجم فيه مكنوناته من آمالٍ وآمال في مختلف ساعات قربه منها فبدتْ تتأرجحُ مشاعرُ الحبِّ وتتأنقُ في حُلَّةِ البَهاء في عقدٍ فريدٍ منضَّدٍ من أجمل القصائد التي قيلت في الأم.
ويبدو النَّفَسُ الدِّيني جليًا في مجموعة الزهراني الشِّعريَّة منذ الوهلة الأولى للعنوان، حيثُ توظيف اللُّغة القرآنية توظيفًا فنيًا مُوفَّقًا والاقتباسُ من الآية ِالكريمةِ: (واخفض لهما جناح الذُّلِّ من الرَّحمة) فبدا صدى تلك الآية الشَّريفة في العنوان واضحا، وقد تمازج ذلك الاقتباس بين البُعد الإيمانِي ذي الدَّلالة التَّربويَّة الهادِفة والبُعد الفنِّي الإبداعِي في جماليَّات التَّصوير.
وتتوزعُ الُّلغة الدِّينيَّة وعباراتُها ما بين العنوانِ والإهداءِ وفي الآياتِ القرآنيَّةِ والأحاديثِ النبويَّة الشَّريفة التي طرَّز بها المجموعةَ في صفحاتِها الأولى، غيرُ أنَّنِي لا أجدُ مُسوِّغًا فنيًا جماليًا لِسَرْدِ ثلاثِ آياتٍ قُرآنيَّةٍ وحديثينِ نبويينِ وخطِّ لفْظِ الجلالةِ والبسْملةِ بديباجِةٍ فنيَّةٍ إسلاميَّةٍ في مُقدَّمةِ الدِّيوانِ فلسنا في مَحضَرِ كتابٍ وعظيٍّ دينيٍّ إرشادي! نحنُ في حَضْرة الشِّعْرِ والفَنِّ والخَيالِ والعِباراتِ الشَّفَّافةِ والإيقاعاتِ التَّنغيميَّةِ الخاصَّة بهذا الفَنِّ الأدبِي، فلا يستدعي ذكرها فعُنوان المجموعةِ وفهرسِها يُوِّضحُ للقارِئ مَضامينَها ولو اكتفى بالإهداء لكان أفضل.
فَلسَفةُ البَعْثِ ومَبدأُ النَّشْر ِويقينُ الحِسابِ وحُكمُ الفوزِ برضا الله وفراديس الجنان تبدو جليةً في العديدِ من الأبياتِ والتي تُؤسِّسُ أبرزَ مُعتقداتِه الفكريَّةِ فيما يخصُّ الإيمانُ بالوجُودِ المقدَّسِ لِعَدالةِ الرَّبِ وحَياةِ الآخِرة.
المجموعةُ تَضمُّ ثَلاثَ عشرةَ قصيدةً تتوزعُ بين العَمودِيَّةِ والتفعيلةِ، حيثُ يَتفنَّنُ الشَّاعِرُ فيها في خَلعِ أجملِ الوصفِ لأمِّهِ.. فأحيانًا هي الشَّمعةُ المتألِقةُ بالحبِّ والتي تضيءُ حياتَهُ وهي تحترقُ. وأحيانًا البلبلُ الشَّادِي بأحلَى الأنغام وأخرى بالنَّحلةِ العاشِقةِ للأزهار.
ومِن اللَّطِيفِ في الأمرِ أنَّ الشَّاعِرَ الزَّهرانِي قد بَدا مُسْتَرْسِلًا في تَرجَمةِِ مشَاعِرِه تِجَاهِ والدتِهِ منذ أنْ كانتْ ترفُلُ في سَرابيلِ صِحَّتِها وتَغنَّى بذلكَ الحُبِّ الوَرديِّ الذي شَملَ أرجَاءَ قلبِهِ حتى بدأَ المرضُ يدبُّ في جسدِها وكأنَّها أبَتْ أنْ تختفِي عن مشَاعِره وحُضُورُها يتردَّدُ في حنايا خافقِه وأبَى النِّسيانُ أنْ يتسللَ إلى ذاكِرتِه أو أنْ يبعدَهَا عن مُخيِّلتِه...
والحَالةُ الشُّعورِيَّةُ الخاصَّةُ بالشَّاعِرِ الزَّهرانِي بَدتْ مُتمخِّضَةً بالَّتبايِنِ الزَّمنِي للمُناسبةِ العاطفيَّةِ.. فنراهُ يذكرُ أمَّهُ بعد رَحيلِها في شِعْرهِ بقصَائدٍ مُؤرَّخَةٍ منذُ صُبحِ الفاجِعَةِ مُرورًا بالشَّهرِ والشَّهرينِ وكأنَّهُ يريدُ الاسترسالَ في نسجِ قصائِدهِ باستمرار ِالحُزنِ فهو يستكثرُ أنْ يمرَّ عليهِ شَهرانِ من رحيلهَا وبَوحُهُ مُغلقٌ والشِّعْرُ يَهجرهُ وصمتُهُ قاتِلُه..
فيعاودُ الشِّعْرَ بعد الثلاثة أشهرٍ وبالعَامِ والعامينِ والحنينُ إليهَا وأسَى الفُراقِ لازمَهُ في تلكَ الفتَراتِ ولم يجدْ بُدًَّا من تَرجَمتِهِ شِعْرًا وفاءًا منهُ للأُمِّ واستجابةً لتدفُّقِهِ الشَّعري كوفاءٍ آَخر للشِّعْرِ وللشَّاعِرِيَّة.
جُلُّ عناوينِ المجموعةِ تُترجِمُ الولاءَ للأُم ِّوهَولَ فراقِهَا كما في عناوين النُّصُوصِ: (صُبح الفاجِعة، من أين لي من بعدها قلب؟، قبرٌ بين الجوانِح، لا أنتِ متِّ ولا أنا حي، من ألحان هزار يتيم، أين أمي؟).
فجميعُ النُّصُوصِ من حيث الدَّلالةِ امتداد لِهَذا المعنَى، وهي تتحدثُ عن الوجدِ والِّتيهِ النَّفسِي في عَرَصَاتِ الحياةِ الخاوية على عروشِها والتي تفتقدُ حُضُورَ الأُمِّ..
في قصيدةِ «النار والبرد» يعرضُ الشَّاعِرُ ذكريَاتَهُ في وادي «نخال» معَ والدتِه في لَحظاتٍ صَاغَتْ جمالَها أنغامُ الودِّ وبموتِهَا ماتَ الحبُّ والصَّفوُ وتَنغَّصَ العَيشُ.. فيسترسلُ في وصْفِ انفعالاتِهِ ووجدانيَّاتِهِ الحَارِقةِ التي تكادُ تُفقِدُهُ الشُّعورَ بما يَدورُ حوله.
وفي البيتِ السَّادسِ من نفس القصيدةِ يتضحُ الخطأُ اللُّغَويُّ في استعمَالاتِهِ لِمُفردتَي “الخدّ والقدّ”!! فكلا اللَّفظتين تأتيانِ بمعنىً واحدٍ فالخَدُّ هو القَدُّ، وكذلكَ في البيتِ الثانِي يحشدُ ثلاثَ كلماتٍ مُترادِفَةِ المعنَى “لهيب ولظى ونار” فالنَّارُ هي اللَّظَى والَّلهيبُ ألسنةُ النَّار.. فبالحشْوُ اللَّفظِيُّ الذي أقحَمهُ في التَّركِيبِ اللُّغويِّ لِعَجُزِ البيتِ أفسدَ اللُّغةِ الفَاعِلةِ فلو استبدلَ الخَدَّ بالثَّغرِ لكانَ أفضل فنيًا ولما تغيَّر الوزنِ العروضِي..
تَكرارُ المُفرداتِ المُترادِفَةِ في القَصيدةِ يُفسِدُ جَمالَها الفنِّي ويَشلُّ حيويَّةَ اللُّغَةِ كما في (لهيب ولظى، سرور وغبطة، خد وقدّ، الصفو والسعد، حزن ولوعة، حزن وحسرة، عبق وعطر).
المُعْجَمُ اللَفظِيُّ لِلقَصِيدةِ تَرْجمةٌ واضِحةٌ لِأَثَرِ الوجدِ وهَيمنةِ الحُرقَةِ على فُؤادِهِ لِأَسَى الفراقِ (لهيب، لظى، نار، دموع، هاجت، الحزن، الوجد، اللوعة، الحسرة، فقد، مات، قبر، ظلماء، طوى، أودى، سهم، سهد).
تَتجَسَّدُ قُوَّةُ المَجَازِ الفَنِّي التَّصويِري في الأفِعالِ الماضية (سبى، جرى، طوى، أودى، ضمَّ، أزرى، ماتت). حيثُ أنَّهُ لا يزالُ حَبيسَ الذكرى وأسيرَ اللَّحظاتِ المُنْصَرِمَةِ.
وتَقَارُبُ مَخَارجِ بعضِ الحُروفِ في بعضِ العِبارات الشِعريَّةِ قد تَسبَّبَ في ثِقِلِ النُّطقِ ونَشَازِ الإيقَاعِ الصَّوتي لِأُذِنِ المُستمِعِ كما في “مذ ضمها تقارب الذال والضاد”.
أغلبُ قَصائِدِ المجْموعةِ نُظِمتْ على البُحُورِ الثقيلَةِ (الطويل، الكامل، البسيط، الوافر) ذاتِ التَّفاعيلِ الثمانيةِ والسُّداسِيةِ والتي تنُمُّ عن ثقلِ الفَاجِعَةِ وشِدَّةِ وقْعِها على قلبِ الشَّاعِرِ ولكي تفيْهِ حُريَّةِ التَّعبيرِ بشكلٍ أكبر ٍمن البُحورِ القصيرةِ ذاتِ التَّنغيمِ الصَّوتِي الانسيابِي والذي يتناسَبُ ومواضيعَ البهجةِ والغَرامِ فمُناسبةِ البحرِ بِالوزنِ التفعيلي لمِوضوعِ القصِيدةِ منحَها قُوةً فنيَّةً..
يَتوهَّجُ الجمالُ الفَِّني في مَطالع قصائدِ المجموعةِ بخَلعِهِ بعضَ الأوصافِ الاستشراقيةِ التَّفاؤليَّةِ على أمِّهِ والتي تُضيءُ حياتَهِ وتُزيدُهَا جمالًا كما في (شمعة الحب، بسمة، وردة، بلبل، نحلة، كوثر، نخلة، ثريا).
اللُّغَةُ النثريَّةُ التَّقريريَّةُ الخطابيَّةُ تَطغَى على أجواءِ قصَائدِ المجموعةِ والتي تكادُ تُحيلها إلى المُباشَرة لولا تناثُر النِّداءاتِ والتَّساؤُلاتِ والاستفهامِ في تعابيرِ بعضِ القصائدِ.
التشبيهُ غيرُ جادٍّ.في (وأدمى طرفك الأفق) ص(13) قَصيدةِ “الشمعة”. فالأفُقُ لا يَُدمِي فلو قال الأرقُ أفضل وفي عَجُزِ البيت الذي يسبقهُ لكي لا تتكرر القافية ممكن يستبدل الأرق بالقلق “تنام عيني ويضني عينك القلق”.
تبدُو اللُّغةُ شَامِخَةً مُتَطَلَّعَةً إلى قِممِ العلياء ِفي الأبيات (9،10،11 من قصيدة الشمعة ص14. بإيرادهِ ألفاظِ (القُوُّةِ والشُّموخ والقممِ والعلياءِ والسرج والاستلهامِ والأحلامِ، الركوب، الانطلاق). ومناسبةِ تلكَ الألفاظِ للمعانِي الشامِخةِ..
لا تكادُ تخلوُ قصيدةٌ من قصَائدِ المجموعةِ من الُّلغةِ الدينيَّةِ والنَّفَسِ العقائِدي والذي تتبلورُ فيه صُورُ إيمانِهِ ومُعتَقَدِهِ بالقيمِ الرُّوحيَّةِ والمفاهيمِ الأَيديولوُجِيَّةِ الإسلاميَّةِ. التي بدورِهَا تضفِي نوعًا من مصداقيَّةِ المشَاعرِ وروعَةِ أثرِهَا في نَفْسِ المُتلقِّي:(الكوثر، طهر، مبتهلا، الرشد، ضلت، قِبلة، الله، معتقد، صابرة، مالا ولا ولد،الواحد، الديان، الرحمن، وجهت، المولى، أيوب، رب، العون، السند، جحيم، سجدت، كتائب، القبر، الفجر، زمهرير، الحمد والشكر، الحشر، وزر، شفق، نعتنق، محاق، الأكفان، صعيد، البعث، تحاسب، جنة، المأوى، فوز، أزَّا، دعاؤك، الميمون، يدكُّ، حصون، مصاب، اللحد، جنة الفردوس، عرش، نار، برد ريحان، مئذنة، تكبير، الأحد، الصدق، الحق، مدد وقضاء الله).
تبدأُ مأساةُ الشَّاعر وهَولُ مُصيبتِهِ من القصيدةِ الثانيةِ في المجموعةِ (صُبح الفاجعة)، حيثُ يتمخَّضُ الأسَى من عنوانِها وما تحديدهُ لِوقتِ الفاجعةِ الزمني “الصبح” إلا دليلٌ على شدةِ وقعِ تلك الفاجِعةِ فمُفْردَةُ الصُّبحِ دِلالةٌ مٌعجميَّةٌ فاعِلةٌ ذاتُ مٌسوِّغٍ فنيٍّ ومن دونِ وعي شُعوريٍّ من أثرِ الانفعالِ الوجداني الغاضِبِ في لحظةِ نسجِ أبياتِ القَصِيدةِ، حيثُ نضَّحَ مُعتقدَه ُعلى حَبَّاتِ مُفرداتِهِ والدُّعاءُ قد انطلقَ من قلبٍ مُرتعدٍ وَكَبدٍ حَرَّى وحُزنٍ مُتَّقِدٍ..
وكأنَّهُ من هولِ الفاجعةِ وحَرِّ ما بهِ من أسىً بدا مُتلعثِمًا كعادةِ المُبتلَى بِمُصيبَةٍ يسقطُ في بُؤرةِ التَّكرارِ وسطوةِ التَّلعثُمِ اللَّفظِي ومن دون قصدٍ فيخُونُهُ التَّعبيرُ ويخفقُ في التَّصويرِ الفنِّي ويضعفُ المعنى ويبدو أنَّ كتابةَ القصيدةِ في لحظتِها أحيانًا يوقعُها في شِراك الخطابِ الُمباشِرِ والعَرضِ التَّقريريِّ فرغمُ انسيابِ العاطفَةِ الحارِقةِ وحرارةِ الحُروفِ غيرُ أنَّ ذلكَ أخرجَها من الشِّعْر ِإلى النَّظمِ المُباشَرِ الذي يكادُ يكونُ نثرا....
مثلا فالمعتادُ قولُه “كَفِّي على صدري... أو على قلبي” هو يقول: “كفي على كبدي”!! وكذلك وفي رئتي أهاتي الهوجاء !!! غالبًا الآهاتُ في الصَّدرِ أو القلبِ ليس في الرِّئةِ!!! ويبدأُ في تَكرارِ لفظِ “الكبد” خمسَ مراتٍ بمواقعٍ مُتقاربة في البيت (2،3،4 ص19من قصيدة “صُبح الفاجعة” في صَدرِ البيتِ مرتين وفي عجزه مرتين وفي قافيةِ البيتينِ المتتاليينِ ولو استبدلَ الأخيرة ب “كمد”.
وعلى الرُّغمِ من أنَّ أسلوبَ التَّكرارِ يُعدُّ من عُيوبِ البلاغَةِ في الشِّعرِ العربِي ما لم يكنْ بوجُودِ مُسوِّغٍ فنيٍّ واستكمالِ المعنى، حيثُ يسيطرُ الشَّاعِرُ عليهِ سيطرةً كاملةً ويستخدمهُ في موضِعِهِ وينبغِي أنْ يكونَ وثيقَ الارتباطِ بالمعنى العامِ فلا يتحَوَّلُ هذا التَّكرارُ إلى اللَّفظيَّةِ المُبتذَلةِ المُتكلِّفةِ والتي لا سبيلٌ إلى قَبولِها فإنَّ الَّزهراني وقعَ في مجموعتهِ في العديدِ من التَّكْرارِ بأنواعِهِ من تَكرارِ الكلمةِ والفعلِ والحروفِ والجُملةِ، ويبدو أنَّهُ قصدَ من هذا التَّكرارِ التَّأكيدَ ووصفًا للحالةِ الشُّعوريَّةِ الثَّائِرةِ التي استشعرها لحظةَ التَّكرارِ وإنْ كانَ الأفضلُ الاستغناءَ عن تَكرارِ الجُملِ والاسترسالَ في التَّدفُّقِ الوجدانِي عبرَ أساليبٍ فنيَّةٍ أخرى تُجسِّدُ تلكَ الحالةَ كالاتِّكاءِ على المَجازاتِ والتَّشبيهاتِ والاستعاراتِ في صُورٍ خياليَّةٍ نائيةٍ عن التَّعبيراتِ الرَّتيبةِ ذاتِ الوقعِ المطروقِ...
فكعادةُ النائحِ والنَّادبِ في المُصيبةِ تَكرارُ وتعدادُ بعضِ العباراتِ ساعةِ تلقِّي الخبرِ يبدأُ الشَّاعِرُ في تَكرارِ جُملةِ “خمسون عاما” ستَّ مراتٍ بالتَّتالي وبنفْسِ التَّركيبِ الُّلغَوي والبنِاء الفِّني وكأنَّهُ يُريدُ من هذا التَّكرارِ التَّأكيدَ على بعضِ صفاتِ والدتِه خلال تلك الفترةِ الزمنيَّةِ من عُمرها فهي الكادِحةُ الصابرةُ الصَّامتةُ الواقِفةُ السَّاهِرةُ...
وكذلكَ في جملة “فلقد فقدنا في مطلع الأبيات” 16،17،18،19 ص21.
وفي قصيدةِ «إنصات» يَنسجِمُ الزهراني في وصفِ لحظاتِ الدَّاءِ التي ألمّ بصدرِ والدتِهِ وما ترتَّبَ على ذلكَ من تبعاتٍ نفسيَّةٍ عليهِ ويبدو موضوعُ القصيدةِ ذو دلالةِ في معاني أبياتِها وكأنَّهُ أرادَ من الكُلِّ الإنصاتَ لِسردِ فاجعِته ولا من أثرٍ في الوجُودِ غيرُ وجَعِهِ لوجَعِهَا «والدته»....
بالغَ الشاَّعِرُ في ذكرِ مُفردةِ «الرِّئة» في غيرِ موضِعِهَا ومن دونِ حاجةٍ إليهَا حيثُ تسبَّبَ ذلكَ في إربَاكِ المعَنى وضعفِهِ فنَّيًا يقول:
سجدتْ على جمر الأسى رئتي؟؟!!! وفي موقعٍ آخر من نفس القصيدة يقول:
زادَ أنينٌ شبَّ في رئتي.... نار النحيبِ وأدمعي شربُ!!!ومن قبلها في قصيدة صبح الفاجعة يقول: مذ غبتِ يا أمي وفي رئتي... آهاتي الهوجاء تطَّردُ.
تتناثرُ مُفرداتُ “الحُرقة” ومشتقاتُها بين عباراتِ أبياتِ القصائدِ ولا تكادُ تخلو قصيدةٌ منها (تحترق، الحرق، ساخنة، جمرة، تقد، الجمر، اللظى، نار، وهج، الكي، لهيب). وجميعُها ذاتُ دَلالاتٍ مُعجميَّةٍ واضحةٍ تنمُّ عن مدى أثرِ تلكَ النَّازِلةِ في شِعْرِهِ وفي تراكِيبِهِ اللُّغويَّةِ في بنَاءِ هَياكِلِ قَصائدهِ في المجموعةِ....
إسهابُهُ في أدواتِ الاستفهامِ والتَّعجُبِ والتَّساؤلاتِ المُتناثِرةِ ما بينَ أبياتِهِ مَنحتِ التَّعابيرَ الإنشائيَّةِ في الجُملِ الشِّعْريَّةِ جمَالًا وقُوةً في الحَبكِ ووقْعًا في النَّفسِ فحينما يقولُ “من أين لي من بعدها قلب؟؟ وأين أمي؟؟ هل متِّ يا أمي؟ مَنْ لي؟؟” فإنَّهُ بِذلِكَ يُثيرُ الشَّجَنَ ويخلقُ جوًا من التَّفكيرِ المُلْهَمِ بالذِّكرى والمتَّكِئِ على مُعْتقَدِ البِرِّ بالأُمِّ في حُضُورِهَا وغيَابِهَا....
غيابُ شَخْصِ والدتِهِ الحبيبةِ عن ناظريهِ جعلهُ يبحثُ بشَغفٍ عن كُلِّ ما يتعلَّقُ بها فلم يجدْ بعد الذكرياتِ ما هو ملموس سوى مثوى الحبيبةِ “قبرها” فبدا كثيرًا ما يُخاطبُ ذلك القبرَ الذي يُجسِّدُ لهُ شخصَها فيبثُّ عندَهُ شجاهُ وينعَي آلامَهُ ويُعتِّقهُ بِمُرِّ اللَّاعِجِ ودمعِ الحرمانِ والذي احتارَ أينَ سيُحافظُ على ذلك الكنزِ المتبَقي فاختارَ لهُ ما بينَ الجوانِحِ مكانًا يقيهِ من نظراتِ الخَلقِ فيقولُ في قصيدةِ “قبر بين الجوانح”: سأحملُ هذا القبرَ بينَ جوانحِي:::: وأمضِي فهلْ يرضي بموطنِه القبرُ؟ وفي موضع آخر يناجي القبر قائلا: أيا قبر أمي هل علمتَ بأنني::::: يتيمٌ طوى أفراحه الحزن والقهر؟ وآخر: ثلاثة أشهرٍ يا قبر أمي..
وفي موضعٍ آخر: وقفنا على قبر الحبيبة... وآخر: فأجلس قرب هذا القبر مبتهلا.. وفي: إن كنتِ متِّ فأطلقي قلبي الذي في ركن قبرك قابع... وقبرها وهو تحت الأرض يحملني فهو يزورهُ شوقًا كُلِّ يوم ويُطيلُ الوقوفَ قُربَ قبْرها باكيًا رغم اعترافِهِ أنَّ الدَّمعَ غيرَ مُجد فيطلقُ قلبَهُ المفجوعَ قابِعًا عند رُكنِ القبرِ..
التَّقارُبُ اللفظِي في تركيبِ الجُملةِ الشِّعريَّةِ وتأرجحُ العبارةِ الفنيَّةِ في الصُّورةِ الخياليَّةِ الهائِمةِ في هيكِل عَجُز ِالبيتِ الخامس من قصيدةِ «اندهاش» ص 45 أحدثَ جمالًا فنّيًا وإيقاعًا مُتناغمًا في الُموسيقَى الدَّاخليَّة للشِّعر.
حزنتُ لفقدها وفقدتُ صبري:::: وأدهشَ دهشتي هول اندهاشِي
في البيتِ الخامسِ من قصيدةِ “من الثرى إلى الثريا” ص55 ضلَّ الشَّاعِرُ الطَّريقَ نحوَ الجمالِ في توليدِ الصُّورة الشِّعريَّةِ الفاعِلةِ ولم يُوفَّقْ في التَّشبيهِ يقول:
أنت شمسٌ أضأتِ ليل فؤادي:::: وصباحٌ رأته روحي نقيَّا!!!
وهل الشَّمسُ تضئ ليلًا؟؟؟ فالشَّمسُ علامةٌ من علاماتِ النَّهارِ فكيفَ نسَبها هُنا إلى الليلِ؟؟؟ حتى وإنْ كانَ ليلُ الفُؤادِ، وفعلُ الإضاءةِ متلازمٌ بالقمَر أكثر من الشَّمسِ فغالبًا ما يُقال أشرقتِ الشَّمسُ وأضاءَ القمرُ فلو قال: “بدرٌ أو وَهْجٌ” لكان أصحّ لغويًّا.
لم تتمخَّضِ الصُّورةُ الشِّعريَّةِ جيدًا في البيتِ الثالثِ من قصيدةِ “من ألحان هزار اليتم” ص79: يقولُ: عامان يشدو هزار اليتم في هدبي.... لحنا ويشربُ حيرانا من الرمد ِ
ألم يجدْ مكانًا يشدو فيهِ هزارُ اليُتم ِألحانَهُ غيرَ الهُدُبِ؟؟؟ والهزار ُحينما يشدو ألحانًا يكونُ جَذلًا مُستبشرًا وهو أرادَ الحزنَ فكيفَ يكونُ في حالةِ شدوٍ ولحنٍ ويشربُ من الرَّمدِ وهو وجعُ العينِ؟؟ وما وراءُ الوجعِ إلاَّ الأسَى.. فالجوُّ العامُّ للقصيدةِ يأخذُ طابعَ الحُزنِ واشتعالَ الكبدِ بجمرِ الفراقِ، إذْ بهِ يُقحِمُ الشَّدوَ واللَّحنَ إقحامًا غيرَ مقبول....
وكما في البيتِ الثامنِ من قصيدةِ «قبر بين الجوانح»: أزورك شوقا كل يومٍ ومهجتي:: يحاصرها من زمهرير الأسى جمرُ؟؟؟ فالزمهريرُ شدَّةُ البردِ فكيفَ يُحاصِرُ مُهجتَهُ الجمرُ من َزمهريرِ الأسى؟؟؟
تتناثرُ لوحاتٌ فنيَّةٌ في غايَةِ الرَّوعةِ والدِّقةِ في التَّصويرِ بين طيَّاتِ أبياتِ بعضِ قصائدِ المجموعةِ كما في: “والشمس تغزل شال الجمر من كبدي... وفي: أبني على شُرُفات النجم مئذنةً:: تكبيرها مُوصلٌ بالعرش لم يمدِ..” ص79.
ونافلةُ القول: أنَّ الشَّاعرَ السُّعوديَّّ حسنَ مُحمَّدِ الزهراني نجحَ في مجموعتِه “ريشة من جناح الذل” في رسمِ صُورةٍٍ من أروعِ صُور الوفَاء للأُمِّ عن طريق الشِّعر ذي القالبِ الدِّيني والمتُأرجِّح ما بين ألم فاجعةِ الرحيل وأملِ الفَوز باللِّقاء المُرتقبِ في الفِردوسِ الأعْلى وما بينهُما تتناثرُ مشاعرُ الأسَى ودهشةُ الإنصاتِ لِوقعِ صَدى الذِّكريَاتِ في مَعبدِ الحَرفِ وأعذبِ الكلمَاتِ عبرَ فضَاءِ الشِّعْر اللامُتناهِي وأُبَّهَةِ الجمَالِ اللاَّزوردي المُعتَّقِ بِفيضِ الصَّفاءِ وزبرجة العَظمةِ حيثُ الوفَاءُ للأُمِّ ولِلشِّعْرِ والشَّاعِرِيّةِ....


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.